لا يمكن فهم الأزمة الأوكرانية التي تهدد بنشوب حرب عالمية بين روسيا الاتحادية من جهة وأمريكا وحلف شمال الأطلنطي من جهة أخرى، وأثرها على المنطقة العربية إلا من خلال ثلاثة محاور رئيسية: المحور الأول يتمثل في رؤية الولايات المتحدة الأمريكية الاستراتيجية لطبيعة الصراع وشكل التحالفات في القرن الحادي والعشرين، والمحور الثاني هو وسائل الضغط الأمريكية على الحكومات العربية لتشكيل جديد للأمن يتماشى مع رؤيتها الاستراتيجية، والمحور الثالث يتمثل في وضع اقتصادي قد يفاقم الأزمة الاقتصادية بالبلاد العربية في حال نشوب الحرب بين القوى الكبرى والذي سيدفع العالم نحو وضع اقتصادي كارثي.
المحور الأول
المحور الأول، المتمثل في رؤية الولايات المتحدة الأمريكية لطبيعة الصراع العالمي في القرن الحادي والعشرين هذا تكفل بشرحه مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق "زبغنيو بريجينسكي"، الذي ألف كتاباً بعنوان "رقعة الشطرنج الكبرى" حدد فيه الرؤية الأمريكية التي تتمثل في محاصرة النفوذ المتنامي للقوتين الروسية والصينية، واقترحَ فيه تشكيل العالم على هيئة مجلس إدارة عالمي يتألف من أمريكا والمتحالفين معها حول العالم، ومن هنا نستطيع فهم تخوُّف روسيا التي ترى في الاستراتيجية الأمريكية تحجيماً وتقزيماً لدور مُتنامٍ لها تريد من خلاله العودة لمكانتها التي فقدتها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
ولكن أمريكا كانت أسرع في تنفيذ استراتيجيتها على الأرض وأخذت تتمدد هي وحلفاؤها على الأرض لمحاصرة روسيا، واستطاعت الالتفاف على الاتفاقيات الأمنية مع روسيا وضمت في عضوية حلف شمال الأطلنطي دولاً في أوروبا الشرقية، وهو ما أزعج الروس وأبدوا تبرماً مكتوماً.
الأوضاع بدأت تأخذ شكل الحصار الاستراتيجي ليس في أوروبا فقط، ولكن في آسيا والشرق الأوسط، حيث أرادت أمريكا حصاراً ممتداً من أوكرانيا إلى تركيا ودول آسيا الوسطى وإيران وباكستان؛ لمنع أي تمدد روسي، وقد بدا أن الحصار يؤتي مفعوله حتى فوجئ العالم بردِّ فعل روسي عنيف تحت مظلة السلاح.
في كازاخستان تدخلت روسيا لدعم النظام هناك بقوة السلاح؛ لكسر الحصار الأمريكي الذي أراد تغيير النظام هناك على شاكلة ما حدث في أوكرانيا عبر الثورات الملونة ومن قبلها في جورجيا، وكذلك التدخل العسكري لدعم النظام السوري ومنع سقوطه وتثبيت أوضاعه العسكرية في سوريا؛ لضمان كسر الحصار الأمريكي للقوة الروسية، ثم تأتى الأزمة الأوكرانية لتؤكد روسيا بقوة السلاح والتهديد بحرب كبرى مع الغرب، أن الحصار الاستراتيجي الأمريكي الغربي لم يعد مقبولاً مع عودة روسيا القوية للعب دورها في ترتيبات الأمن حول العالم.
المحور الثاني
يكمن المحور الثاني في وسائل تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية عبر دعم الثورات الشعبية لحصار روسيا، ففي العام 2004 قامت في أوكرانيا أولى الثورات التي عُرفت بالثورات الملونة والتي دعمتها أمريكا لتغيير النظام السياسي هناك، وعلى الرغم من المقاومة الروسية لتلك الثورة في أوكرانيا فإن الثورة نجحت في النهاية وتم تولية نظام موالٍ للغرب، وهو ما اعتبرته روسيا هزيمة استراتيجية لها تتيح لأمريكا والغرب نفوذاً على حدودها، ولهذا دعمت روسيا الانفصاليين في شرق أوكرانيا؛ لإيجاد وضع يتيح لها التحرك إذا لزم الأمر عسكرياً.
وهو ما جعلها تضم شبه جزيرة القرم عسكرياً من أوكرانيا؛ حفاظاً على مصالحها ولضمان موطئ قدم استراتيجي لقوتها العسكرية البحرية النووية بأهم الموانئ العسكرية في شبه جزيرة القرم.
في الوقت نفسه قامت بحشد قوتها العسكرية الضخمة المسلحة بأحدث التكنولوجيا في سوريا؛ لمنع نظام الأسد من السقوط، ولضمان عدم تكرار السيناريو الأمريكي الأوكراني في سوريا، لأن روسيا رأت في ثورات "الربيع العربي" تكراراً للثورات الملونة التي كان الهدف من دعمها محاصرة روسيا استراتيجياً عبر الإتيان بحكومات جديدة موالية لأمريكا تساعدها في محاصرة النفوذ الروسي.
المحور الثالث
في حالة نشوب الحرب بسبب الأزمة الأوكرانية، فإن أزمة اقتصادية عالمية ستحدث وستؤثر على جميع دول العالم، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة كالبترول والغاز، وكذلك توقف سلاسل التوريد للقمح من روسيا وأوكرانيا تحديداً اللتين تحتكران وحدهما 25% من صادرات القمح في العالم، مما ينذر بارتفاع أسعار الغذاء، وما يتبع ذلك من اضطرابات مجتمعية حول العالم ربما تتحول لصراعات مسلحة بين الدول.
المنطقة العربية في قلب الصراع
وفقاً للمحاور الثلاثة نجد أن الدول العربية تقع في قلب الصراع الاستراتيجي بين أمريكا والغرب وروسيا، وأنها تمثل أهمية كبرى في الاستراتيجية الأمريكية للقرن الحادي والعشرين، حيث إن أدوار تركيا وإيران (في حال الاتفاق مع الرؤية الأمريكية) وباكستان وإسرائيل ضمانٌ للأمن في المنطقة العربية بما يسمح بتشكيل حزام أمني حول المنطقة العربية؛ لمنع التمدد الروسي فيها.
ولهذا ليس غريباً أن نجد لتركيا دوراً عسكرياً بالدول العربية في سوريا والعراق ودول الخليج يتنامى بمرور الوقت، وكذلك إسرائيل، العدو التاريخي للعرب الذي أصبح له دور أمني واضح في المنطقة العربية، ويبقى الدَّوْران الإيراني والباكستاني غير مكتملَي الملامح في انتظار ما تسفر عنه الأوضاع العالمية والإقليمية.
هذا في الوقت الذي تكافح فيه روسيا بقوتها العسكرية لضمان وجود أمني في المنطقة العربية عبر قواعدها العسكرية والبحرية على الساحل السوري المطل على البحر المتوسط، وكذلك تدخلها الأمني في الشأن الليبي عبر شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة، وكذلك تقوية ومساندة النظام السياسي في الجزائر عسكرياً وسياسياً، ثم محاولاتها لضمان وجود بحري بقاعدة عسكرية تطل على ساحل البحر الأحمر في السودان.
كل هذا الزخم من الصراع الدولي على المنطقة العربية يتم تحت مظلة تداعيات ثورات الربيع العربي التي دعمتها أمريكا في البداية، وقاومتها روسيا مثلما حدث في سوريا، ثورات الربيع التي تحولت لشتاء عربي قارس أتى بأوضاع سياسية مهترئة وهشة وحروب أهلية ولم تعكس آمال شعوب المنطقة في الحرية والعدالة وأوضاع اقتصادية جيدة.
بل عبّرت عن صراع استراتيجي محموم بين أمريكا وروسيا لمنع الانفراد بمعادلة القوة في المنطقة العربية التي في حالة نشوب الحرب بأوكرانيا ستعاني دولها من أزمة اقتصادية كبيرة تفاقم الأوضاع الاقتصادية الصعبة أصلاً، مما ينذر بوقوع اضطرابات مجتمعية وربما حروب تهدد الأمن وربما تطيح باستقلال بعض الدول، فبمجرد توقف توريد القمح الروسي والأوكراني سيعد ذلك بمثابة كارثة لبلد مثل مصر، التي تستورد 85% من طلباتها منهما!
حيث اشترت في عام 2020 ما مقداره 3 ملايين طن قمح من أوكرانيا، ومن روسيا 8.9 مليون طن، وكذلك في سوريا، فضلاً عن أن القواعد العسكرية لأمريكا وروسيا في الدول العربية ستصبح أهدافاً عسكرية مشروعة للقوتين، وهذا الوضع سيغري دولاً مثل إيران وإثيوبيا لتهديد الأمن العربي بالكامل.
أوكرانيا.. مثلت منذ عام 2004، هاجساً أمنياً للدول العربية خاصةً مصر، ولكن تلك الدول لم تتحرك لإيجاد نظام أمني عربي موحد يمنع السقوط، وهو ما جعل أوكرانيا بمثابة ترمومتر يؤشر على مدى سخونة الأوضاع في المنطقة العربية، التي لم تحتَط اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لثورات وصفتها بالمؤامرة الدولية دون وضع الاعتبار لمتطلبات شعوبها التي كانت تعاني من تردي الأوضاع المعيشية وتفشي البطالة التي تعتبر لدينا الأعلى عالمياً.
يبدو أن الأزمة الأوكرانية ستلقى بتداعياتها على المنطقة لسنوات قادمة وحتى قيام نظام عالمي جديد، ولهذا على الدول العربية- خاصةً الكبرى منها مصر والسعودية وسوريا والعراق والجزائر- أن تبحث وتجد حلاً عربياً لترتيبات الأمن بما يضمن لها وجوداً في عالم يعاد تشكيله وإلا فلا يتحدث أحد مستنكراً تنامي الدور الإيراني والتركي والإسرائيلي في المنطقة العربية. فالفرصة ما زالت قائمة لترتيبات أمن عربي وسط ركام الأزمة الأوكرانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.