في الحادي عشر من شباط/فبراير الجاري، فوجئ المتابعون بحديث لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون لصحيفة الأخبار اللبنانية عن ترسيم الحدود يجزم فيه بأنّ "النقطة 29 كانت خط تفاوض وليست خط حدودنا البحرية"، مضيفًا أنّ "البعض طرح هذا الخط من دون حجج برهنته". وتابع عون: "خطنا النقطة 23، وهي حدودنا البحرية. ليس تنازلاً، بل حقنا الحقيقي والفعلي".
جاء كلام عون بعد زيارة لكبير المفاوضين في وزارة الطاقة الأمريكية، والمكلّف بإدارة مفاوضات الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، آموس هوكشتاين، إلى بيروت، حيث التقى الأطراف الفاعلة في موضوع الترسيم. وخلال جولته اللبنانية، أدلى هوكشتاين بتصريحات واضحة قال فيها: "نحن الآن في نهاية مفاوضات الترسيم، نحن بحاجة للوصول إلى نقطة حيث يقرر الأطراف أنهم يريدون حلاً". وأضاف: "لهذا أتيت إلى هنا في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وذهبت إلى تل أبيب والقدس، وعدت إلى هنا الآن لأرى ما إذا كان الطرفان يريدان اتفاقاً"، معرباً عن اعتقاده أنّ "هناك فرصة سانحة الآن لترسيم الحدود، بعدما قمنا بتضييق الفجوات".
كان من البديهي أن ينقضّ أخصام عون، من تيارات وأحزاب مسيحية بشكل خاص، عليه متهمين إياه بالتفريط بحقوق لبنان. لكن كل هذه المواقف تأتي من باب تسجيل النقاط في خضم الاستعداد للانتخابات النيابية، وتندرج في سياق تنافس لا ينتهي على قيادة الوسط المسيحي اللبناني، فلا رغبة لهؤلاء باستفزاز الأمريكي أو العبث معه. فيدرك هؤلاء أنّ الأمريكي أقنع عون بالتنازل عن الخط ٢٩ باستخدام سياسات العصا والجزرة التي يتقنها ويمتلك كل مقومات الضغط من خلالها، ليس في لبنان فحسب، بل حول العالم برمته.
تصريحات متناقضة
أتى تسلسل الأحداث التي سبقت تصريحات عون الأخيرة ليتسبب بالصدمة في لبنان، لا سيّما أنّه سبق لرئيس الجمهورية أن أبلغ الوفد المفاوض بتمسكه باستكمال التفاوض من حيث توقّف خلال الجولة الأخيرة في الناقورة بتاريخ ٤ أيار/مايو ٢٠٢١، أي من الخط ٢٩.
كما جاءت الرسالة التي رفعتها مندوبة لبنان الدائمة في الأمم المتحدة، أمل مدللي، في شهر كانون الثاني/يناير الماضي إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة لتؤكد التخلي التام عن خط هوف (تيمناً باسم الموفد الأمريكي فريدريك هوف) واحتمال تحويل المنطقة المتنازع عليها لتبلغ الخط 29 عوضاً عن الخط ٢٣. إشارة إلى أنّ خط هوف يعطي لبنان حوالي 500 كلم مربع، وإسرائيل حوالي 360 كلم مربعاً من أصل كامل مساحة الـ 860 كلم مربعاً.
لكن اللافت أنّ رئيس بعثة التفاوض، العميد بسام ياسين، الذي تقاعد من منصبه العسكري، أطلّ على شاشة محلية ليفنِّد حديث رئيس الجمهورية ويقول إنّ الأخير "كان قد كلّف الوفد وأعطى توجيهاته الأساسية لانطلاق عملية التفاوض بهدف ترسيم الحدود البحرية على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة براً والممتد بحراً تبعاً لتقنية خط الوسط من دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة أي الخط 29".
وما يستدعي التوقف عنده هنا، هو أنّ العميد ياسين الذي كان يرفض الظهور على الإعلام، قد تقصّد الظهور إعلامياً في هذا التوقيت الحساس، حيث أراد الدفاع عن فريقه المفاوض (وعن حق)، وإرسال إشارات إلى حزب الله تحديداً، بعدما وافقت الأطراف الرسمية مع هوكشتاين على تصريحات رئيس الجمهورية.
كذلك، ربط البعض بيان رئيس الحكومة السابق حسان دياب الذي انتقد موقف عون بحزب الله أيضاً. وكان دياب الذي وقع تعديل المرسوم ٦٤٣٣ (وضعه رئيس الجمهورية في الأدراج بعد لقائه مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد هيل في نيسان/أبريل ٢٠٢١) قد أصدر بياناً جاء فيه: "هذا النقاش الداخلي حول ترسيم الحدود البحرية جنوباً مع فلسطين المحتلة مؤلم". وأضاف دياب: "ما يؤلم أكثر أن الدولة التي يفترض أنها مؤتمنة على الوطن، تجتهد في تبرير التفريط بحدود الكيان، وتتنازل عن الثروات الوطنية".
حزب الله يتلقف الإشارات ويتمايز
يعلم الأمريكي علم اليقين أنّ إقناع حزب الله بالترسيم هو الخطوة الأهم، فالقوى السياسية اللبنانية تخشى العقوبات الأمريكية وقانون ماغنتسكي وقانون قيصر وتداعيات قرارات من هذا المستوى. أمّا حزب الله، فلا تعنيه العقوبات ويتّخذ مواقفه على وقع التطورات بين الأمريكي والإيراني سواء في فيينا أو في ميادين الصراع والتلاقي.
وإذا كان إيقاع المفاوضات النووية قد تسارع مؤخراً وسط توقعات باقتراب موعد التسوية المنتظرة، بدا تصعيد حزب الله واضحاً حين تقصّد أمينه العام السيد حسن نصر الله الحديث، الأربعاء، عن قدرة الحزب على الصواريخ وصناعة المسيّرات، سلاح الحروب الجديد.
ويشير حديث نصر الله عن هذا التطوّر في هذا التوقيت إلى محاولته تمييز ملف الحزب عن أي تسوية نووية قد تحصل مع إيران، ومحاولة نأيه بنفسه عن التسوية الغربية مع إيران، وبالتالي الإبقاء على لبنان ساحة اشتباك مع إسرائيل قطعاً ومع سواها ربما، مع إمكانية ربط النزاع إذا ما تم الترسيم البحري والشروع بالتنقيب عن النفط والغاز.
بين هوف وهوكشتاين
على خلاف هوف، دخل هوكشتاين من الباب العريض حاملاً فكرة الخط المتعرّج الذي قد يعطي لبنان حقل قانا أو أكثره، ويعطي حقل كاريش لإسرائيل. دخل هوكشتاين على لبنان المنهك اقتصادياً واجتماعياً وعلى القيادات المصابة شعبياً بتراجع في الشارع والمصابة بتأثير العقوبات الأمريكية.
وهوكشتاين مكلّف من إدارته بإنهاء الملف مع اقتراب التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران من أجل تأمين استقرار لإسرائيل، حليفة الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا يفهم حديث نصر الله عن تصنيع المسيّرات وتطوير الصواريخ محلياً، فهو يسعى إلى فصل تداعيات أي اتفاق نووي جديد مع إيران عن حضور وجهوزية وأداء حزب الله العسكري، وذلك في محاولة لفك مسار التفاوض مع إيران عن ملف الترسيم مع إسرائيل.
وفي أدبياته المعلنة حول ملف الترسيم، يكرر "حزب الله" الموقف نفسه: "نقبل بما تقبل به الدولة اللبنانية"، وقد جاء بيان كتلة الوفاء للمقاومة مساء الخميس لتجدد موقفها بأن "ترسيم الحدود هو مسؤولية الدولة"، وتضيف أنّ واجبها الوطني "يقضي لفت نظر المعنيين الرسميين إلى أفخاخ الوسيط في عملية الترسيم والتنبه إلى محاذير ومخاطر نوافذ التطبيع مع العدو الصهيوني والمرفوضة تحت أي ذريعة من الذرائع".
تساؤلات مفتوحة
وبناءً عليه، يبدو أنّ مشهد الترسيم مفتوح على عدة تساؤلات:
– قد يكون حديث عون لصحيفة "الأخبار" متكئاً إلى وعود أمريكية بإعطاء لبنان مساحات بحرية وتلزيمات سريعة للتنقيب، ولكن ألم يكن الأجدر أن يواكب إعلانه التخلي عن الخط 29 إعلان إسرائيلي عن التخلي عن التنازع في المنطقة الممتدة من الخط ١ إلى الخط ٢٣؟
– هل للدول العربية دور في مرحلة التنقيب والاستخراج، لا سيّما الإمارات وقطر؟
– هل يقبل حزب الله بالتنازل عن حصص من حقل قانا أم ينتظر حصول لبنان على كامل المساحة فيه، ما يعني تجاوز الخط ٢٣ في نقاط محددة؟
– هل يكون الترسيم فرصة لاستنهاض البلد، وهل ينفذ الأمريكي وعوده بتأمين الغاز والكهرباء وأموال صندوق النقد، إذا ما تم الترسيم؟
– هل تعود دول الخليج إلى لبنان من دون أن تحصل بدورها على ما طرحته في بنود المبادرة الكويتية؟
– هل يكون لبنان مرشحاً لصياغة عقد سياسي واجتماعي جديد كانعكاس للاتفاق النووي وترسيم الحدود البحرية، الترسيم الذي يؤمن حكماً واستقراراً على ضفتي الحدود لعقد أو أكثر؟
يبدو أن الجواب عن هذه الأسئلة لن يطول، فآذار/مارس هو شهر الفصل على ما يبدو، ولكن اللبنانيين بدورهم ملوك تضييع الفرص وخسارة المكاسب التي تكون بمتناول اليد.
خشية من سيناريو اتفاقات أوسلو
في ١٣ أيلول/سبتمبر ١٩٩٣، ضغط الأمريكيون بدعم الغرب والشرق على الفلسطينيين للاعتراف بوجود إسرائيل على أن يتبع ذلك قبول إسرائيل بحل الدولتين. تم الاعتراف بإسرائيل، ولا زلنا إلى اليوم نبحث عن الدولة الفلسطينية ونطالب بها.
يتذكر مراقبو لبنان ما حصل قبل 29 عاماً بين فلسطين وإسرائيل، وفي ضوء ما يحدث اليوم، يحذرون من أن تشبه العودة إلى الخط ٢٣ اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، بحيث تنقض على نفط وغاز فلسطين، ولا تعترف بحق لبنان في حقل قانا أو تعود لخط هوف لتناور وتراوغ وتحتل وتستثمر. وهكذا، يكون لبنان قد أضاع الوقت والموارد في آن معاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.