إن العلاقات بين فرنسا والسلطة العسكرية الحاكمة في مالي قد وصلت إلى مرحلة اللاعودة، بعد أن سطَّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون آخر فصولها بإعلان فرنسا انسحاب قواتها من مالي وإنهاء عملية "برخان" العسكرية التي أطلقتها فرنسا في 1 أغسطس/آب 2014 للقضاء على الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي والحد من نفوذها.
ويأتي ذلك بعد خلافات بين الطرفين استمرت شهوراً منذ الانقلاب العسكري الذي حدث في ليلة 24 مايو/أيار 2021 عندما أسر الجيش المالي الرئيس باه نداو، ورئيس الوزراء مختار أواني ووزير الدفاع سليمان دوكوري، وأعلن أسيمي غويتا، رئيس المجلس العسكري الذي قاد انقلاب مالي 2020، أنه تم تجريد الرئيس المؤقت نداو وأوان من سلطاتهما، وأن انتخابات جديدة ستُجرى في عام 2022، وهذا يعتبر ثالث انقلاب في البلاد في عشر سنوات بعد الانقلاب العسكري في عامَي 2012 و2020.
وسنناقش في هذا المقال كواليس الوجود الفرنسي في مالي، ومن يملأ الفراغ بعد الانسحاب الفرنسي من مالي؟
الوجود العسكري الفرنسي في مالي
لقد كان للوجود العسكري الأجنبي في مالي دور فعال منذ 2013 للتصدي لتوسع تنظيم القاعدة وحركة الطوارق على أراضي مالي وبدأت العمليات العسكرية الفرنسية في مالي بعملية "سرفال" منذ نحو تسع سنوات.
فما هي أبرز محطات هذا الوجود العسكري الفرنسي في مالي؟
– في 11 يناير/كانون الثاني 2013، أطلقت فرنسا عملية "سرفال" في مالي لوقف تقدم التنظيمات الجهادية في المنطقة وتمت استعادة مدينة "غاو" ثم دخلوا إلى مدينة "تمبكتو" من دون قتال قبل أن يسيطروا على مطار "كيدال".
– في بداية يوليو/تموز 2013، أطلقت الأمم المتحدة العملية الشاملة لإحلال الاستقرار في مالي بمنطقة (مينوسما)، وحلت محل قوة عسكرية إفريقية تابعة للاتحاد الإفريقي.
– في مايو/أيار 2014 استعادت مجموعات متمردة من الطوارق والعرب السيطرة على مدينة "كيدال" بعد مواجهات مني فيها الجيش المالي بهزيمة كبيرة.
– في الأول من أغسطس، استبدلت "سرفال" بعملية "برخان" ذات الأبعاد الإقليمية بمشاركة ثلاثة آلاف جندي فرنسي في منطقة الساحل.
– في مايو- يونيو 2015 تم توقيع اتفاق سلام في الجزائر بين الحكومة المالية والمتمردين السابقين من الطوارق، لكن تطبيقه بقي صعباً، ومنذ ذلك الحين امتدت أعمال العنف إلى الجنوب ثم إلى دولتي بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين.
– في مارس/آذار 2017 اتحد الجهاديون المرتبطون بـ"تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وحركة الداعية الفولاني "أمادو كوفا" الذي ظهر في 2015 في وسط مالي، تحت مظلة "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" بقيادة الزعيم الإسلامي "إياد أغ غالي" المنتمي إلى الطوارق.
– توسع تنظيم "الدولة الإسلامية" في الصحراء الكبرى وشن هجمات واسعة في نهاية 2019 على قواعد عسكرية في مالي والنيجر، وقد تم تصنيفه العدو الرئيسي خلال قمة بمدينة "بو" جنوب غرب فرنسا في يناير/كانون الثاني 2020 بين فرنسا وشركائها في مجموعة دول الساحل الخمس "موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد"
– لقد واصلت عملية "برخان" في 2020 سياستها في القضاء على الكوادر الجهادية وفي الرابع من يونيو/حزيران قتلت زعيم "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" الجزائري عبد المالك دروكدال، وفي نوفمبر من العام نفسه قتلت القائد العسكري للحركة "باه أغ موسى".
– لكنّ الجهاديين لم يخففوا قبضتهم فقد قتل تنظيم "الدولة الإسلامية" في الصحراء ستة عمال إغاثة فرنسيين في أغسطس/آب 2020 في النيجر، وفي 2021 قتلت القوات الفرنسية زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" في الصحراء الكبرى "عدنان أبو وليد الصحراوي".
انقلابات في الغرب الإفريقي
في 18 أغسطس/آب 2020، أطاح انقلاب بالرئيس المالي "إبراهيم أبو بكر كيتا" الذي انتخب في 2013 بعد أشهر من أزمة سياسية، ثم تدهورت العلاقات بين فرنسا ومالي بعد انقلاب جديد في 24 مايو/أيار 2021.
في 10 يونيو/حزيران من العام نفسه أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرحيل التدريجي لخمسة آلاف عنصر من قوة برخان لإبقاء قوة قليلة العديد من 2500 إلى 3000 رجل.
وفي 9 يناير/كانون الثاني 2022 أغلقت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا حدودها مع مالي وفرضت عليها حظراً بسبب إرجاء انتخابات رئاسية وتشريعية كانت مرتقبة في 27 فبراير/شباط.
وفي 24 يناير/كانون الثاني وقع انقلاب عسكري في بوركينا فاسو، الدولة الثالثة، بين الأربع التي تنتشر فيها قوة برخان، وفي نهاية يناير/كانون الثاني طالب المجلس العسكري الحاكم في مالي الدنمارك بالسحب الفوري لجنودها المئة الذين وصلوا مؤخراً كجزء من التجمع الأوروبي للقوات الخاصة تاكوبا، قائلاً إنه لم يعطِ موافقته على هذا الانتشار، وفي 31 يناير/كانون الثاني تم طرد السفير الفرنسي من مالي بأمر من القائد العسكري "أسيمي غويتا".
في 14 فبراير/شباط صرح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بأن حوالي ألف مقاتل من مرتزقة مجموعة فاغنر الروسية موجودون حالياً في مالي، وإن الشروط "لم تعد ملائمة" لاستمرار مهمة عملية "برخان"، وتبع ذلك إعلان فرنسا وشركائها الأوروبيين وكندا في 17 فبراير 2022، انسحابهم العسكري من مالي وإنهاء العمليتين العسكريتين لمكافحة الجهاديين "برخان" و"تاكوبا".
"مجموعة فاغنر".. النفوذ الروسي في مالي
في 25 سبتمبر/أيلول 2021، اتهم رئيس الوزراء المالي فرنسا "بالتخلي في منتصف الطريق" عن بلاده مع خفض العديد من قوات برخان، مبرراً بذلك ضرورة "البحث عن شركاء آخرين".
وفي نهاية ديسمبر/كانون الأول من نفس العام نددت حوالي 15 قوة غربية بينها باريس ببدء انتشار مجموعة "فاغنر" الروسية شبه العسكرية في مالي، وفي 14 فبراير 2022، صرح وزير الخارجية الفرنسي بوجود ألف مقاتل من قوات فاغنر في مالي، كما أسلفنا.
وبالرجوع أسابيع قليلة إلى الوراء، وتحديداً في تاريخ 7 يناير/كانون الثاني 2022، أعلن المتحدث باسم الجيش المالي أن الجنود الروس انتشروا في مدينة تمبكتو الشمالية لتدريب القوات المالية في قاعدة أخلتها القوات الفرنسية الشهر الماضي وسط استمرار انعدام الأمن في بلد، مساحات واسعة من أراضيه خارج سيطرة الحكومة.
وقالت الحكومة المالية إن "المدربين الروس" وصلوا إلى البلاد، لكن باماكو وموسكو قدمتا حتى الآن القليل من التفاصيل حول الانتشار، بما في ذلك عدد الجنود المشاركين أو المهمة الدقيقة للقوات الروسية.
لقد وصلت مجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية روسية خاصة مرتبطة بالكرملين ووزارة الدفاع والمخابرات الرئيسية، إلى مالي بدعم من القوات المسلحة الروسية، هذا الانتشار بدأ في ديسمبر/كانون الأول 2021 بعد حالة من عدم الاستقرار في منطقة الساحل، ويأتي ظهور فاغنر لتنفيذ الاستراتيجية الروسية لتأكيد نفوذها في المنطقة من خلال وسائل غير شرعية يمكن إنكارها في حالة ارتكابها جرائم ضد الإنسانية.
وقد تحول المجلس العسكري الحاكم في مالي إلى روسيا بوجود هذه المجموعة لتعزيز موقفها السياسي، فبينما ستدرب ظاهرياً القوات العسكرية المالية وتوفر خدمات أمنية لكبار المسؤولين الماليين، فإنها ستستفيد أيضاً من وضعها لنشر النفوذ الروسي في القارة وتأمين مكاسب مالية على غرار انتشارها في جمهورية إفريقيا الوسطى حيث تتولى تأمين نظام الحكم مقابل الحصول على امتيازات مالية ومعدنية.
وكما في جمهورية إفريقيا الوسطى، أدى تدخل فاغنر في مالي إلى إزاحة الشراكة الفرنسية التقليدية بعد قرار فرنسا بتقليص نشاطها، مما يضخم المنافسة الجيوسياسية الأوسع في إفريقيا، فبينما استخدمت الجهات الفاعلة الروسية المرتبطة بفاغنر المعلومات المضللة لتسهيل أنشطة الشركات العسكرية الخاصة في البلاد، استفاد المجلس العسكري في مالي من المشاعر المعادية للفرنسيين لحشد الدعم المحلي لتقبل وجود قوات عسكرية روسية على الأراضي المالية.
أنشطة فاغنر في مالي
عند وصولها إلى مالي في ديسمبر/كانون الأول 2021 بدأت قوات فاغنر في بناء معسكر خارج محيط مطار موديبو كيتا الدولي في باماكو، جنوب غرب القاعدة الجوية 101، وهي منشأة عسكرية تستخدمها القوات الجوية المالية.
ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة لوموند أشارت مصادر حكومية فرنسية إلى بناء ما يقرب من اثنتي عشرة خيمة عسكرية، ووجود شاحنات نقل جنود، والعديد من العربات المدرعة في المعسكر الذي تم تشييده حديثاً. ويكشف تحليل جديد لصور الأقمار الصناعية عن مزيد من التفاصيل في البناء الجاري لقاعدة عمليات عسكرية في مطار باماكو، والتي من المحتمل أن تستخدمها القوات المسلحة الروسية وقوات فاغنر لتسهيل انتشارهم في مالي.
ويُرجح أنه تم نقل الأفراد والمعدات إلى باماكو على متن طائرات عسكرية روسية، على سبيل المثال سجلت بيانات تتبع الرحلة مفتوحة المصدر وصول طائرة تابعة للقوات الجوية الروسية من طراز Tupolev TU-154 إلى باماكو في 19 ديسمبر 2021، بعد السفر من موسكو عبر سوريا وليبيا، هي جزء من مفرزة الطيران رقم 223 التابعة لوزارة الدفاع الروسية.
كما انتقلت القوات العسكرية التابعة لشركة "فاغنر" إلى وسط مالي، وهي المنطقة التي تسيطر عليها جماعة "نصر الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم القاعدة.
وبحسب ما ورد في العديد من الأخبار لقد تكبد أفراد فاغنر خسائرهم الأولى في 5 يناير/كانون الثاني عندما اصطدمت دورية مختلطة من مجموعة فاغنر وجيش مالي بعبوة ناسفة بين باندياجارا وبانكاس في منطقة موبتي.
كما ظهرت صور لعناصر فاغنر في منطقة سيغو، وهي بلدة في وسط مالي، حيث يتمركز ما يصل إلى 200 فرد من قوات الشركة، كما انتشر جنود روس في مدينة تمبكتو، محتلين قواعد عملية برخان السابقة التي سلمتها القوات الفرنسية للجيش المالي في ديسمبر/كانون الأول 2021.
ومع هذا الانتشار والتمدد الروسي، فإن طبيعة أنشطة مجموعة فاغنر العسكرية في مالي ما زالت غير واضحة، وتشير العديد من التقارير البحثية إلى وجود جيولوجيين مرتبطين بفاغنر في مالي مما يستدعي أنهم سيقومون بتقديم خدمات أمن الموقع للشركات الروسية العاملة في نشاط التعدين، كما حدث أثناء تواجدهم في ليبيا في منطقة الهلال النفطي لتأمين المنشأة النفطية التابعة للشركات الروسية.
وهو ما سيكون متسقاً أيضاً مع أنشطة جيولوجيي مجموعة فاغنر في العديد من البلدان الأخرى التي حصلت فيها روسيا على امتيازات التعدين؛ حيث قام الجيولوجيون بأنشطة تعدينية في جمهورية إفريقيا الوسطى وقاموا باكتشاف مواقع معدنية في منطقتي "سيكاسو، وكوليكورو" في مالي قبل وصول القوات العسكرية التابعة للشركة.
روسيا الرابح الأول
على الرغم من عدم وجود أدلة كافية على اتخاذ قرار حاسم بشأن دور الكرملين في الانقلابين الأخيرين في مالي، فإن روسيا هي المستفيد الجيوسياسي الأول من الانسحاب الفرنسي، حيث أقامت روسيا عقب الانقلاب علاقات ودية مع الحكومة الانتقالية في مالي ووقّعت أيضاً اتفاقية تعاون عسكري مع مالي في يونيو/حزيران 2019، وعززت بذلك علاقاتها مع الشخصيات العسكرية المالية التي دعمت أو ساهمت فيما بعد بانقلاب عام 2020.
وينظر الماليون إلى روسيا بشكل إيجابي أيضاً، حيث ينظرون إلى مبادرات عملية برخان الفرنسية في منطقة الساحل باعتبارها ستاراً لاستعمار جديد، بينما في نوفمبر 2019 حث المتظاهرون في باماكو روسيا على صد هجمات المتطرفين في مالي كما فعلت في سوريا، ورأوها بمثابة المنقذ.
وقد لجأت شخصيات معارضة بارزة، مثل زعيم حزب التضامن الإفريقي من أجل الديمقراطية والاستقلال، عمر ماريكو بنشاط فعال للحصول على الأسلحة الروسية والدعم الفني، ففي مظاهرات ميدان الاستقلال في باماكو التي أعقبت الانقلاب شوهد متظاهرون يلوحون بالأعلام الروسية ويحملون ملصقات تشيد بتضامن روسيا مع مالي.
ونظراً لأن روسيا تمتلك مجموعة متنوعة من الشراكات في مالي ودول الساحل محبطة من سياسات مكافحة الإرهاب للقوى الغربية، يمكن لموسكو الاستفادة من الانسحاب الغربي بقيادة فرنسا من مالي لتأمين الصفقات الاقتصادية وتعزيز مكانتها الجيوسياسية في غرب إفريقيا.
ولقد صاغت معاهد الأبحاث ووسائل الإعلام المتحالفة مع الكرملين باستمرار عمليات مكافحة الإرهاب الفرنسية في النيجر ومالي كواجهة لاستخراج موارد اليورانيوم في منطقة الساحل، من خلال عملاق الطاقة النووية الروسي "روساتوم"، الذي ينافس بشكل مباشر نظيرته الفرنسية "أفيندا" في منطقة الساحل.
ويمكن أن تستفيد من العلاقات الروسية المالية الجديدة شركة Nordgold الروسية بالتنقيب عن المعادن في مالي وهي شركة ذهب روسية لديها استثمارات في غينيا وبوركينا فاسو، لتقوم بتوسيع مبادراتها لاستخراج احتياطيات الذهب في مالي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.