إنما يقسو المرء على أهله عتاباً مرَّة ولوماً مرة أخرى، فالخيبة يعسر إخفاؤها على كل ذي نظر. انقلاب البرهان يتمدد، والمعارضون يطيلون في أنفاسه بتردد مفضوح أو حيرة منهجية عسر معها الحسم حتى الآن، رغم يقيننا بأن انقلاب البرهان لا يستند إلى أرضية صلبة، فالفشل يطارده في كل قرار يتخذه. ما لا تكشفه أسبار الآراء المنتشرة كموضة هو مؤشرات الخوف السارية بين الناس، فلا يسمع المرء في كل مجلس إلا عبارة: أين يحملنا البرهان؟ أو ما الكارثة القادمة؟ وكيف نتخلص من شبح الانقلابات المتكررة بالسودان؟
الناس خائفون من الانقلاب ومن معارضيه أيضاً، وقليل منهم يكابر في أن يعترف بسوء خياره إسناد الانقلاب ودعمه في أول حدوثه، قلَّة قليلة لا تزال تتبجح بالولاء. ولولا الجهاز الإعلامي المتطرف في معاداة الثورة ومخرجات الديمقراطية ما تكلَّم أحد بعبارة دعم وإسناد، أما الخوف من المعارضين فناتج عن ترددهم وتأخرهم في حسم الأمر بالشارع.
سأكتب عن هذا التردد لعل يستبين لنا طريق. فإنه بات من الملاحَظ انخفاض درجة تعامل القوات الانقلابية مع المتظاهرين، على خلاف كل التحركات والمواكب والمليونيات السابقة التي خرجت عقب الانقلاب مباشرة.
فسّر المتابعون للشأن السوداني والمنظمون للحراك الثوري السوداني ومن سار خلفهم، ذلك بأن تكتيكات الانقلابيين تغيرت، وأن ذلك علامة هزيمة للانقلاب بعد الأضرار التي ألحقها به الحراك المستمر الذي يُقمع بوحشية ويؤدي إلى سقوط الشهداء والجرحى والمصابين، ودفع البعض إلى التحليل بأن الضغط الدولي قد آتى أكله، من خلال تراجع الانقلاب عن تخفيف درجة القمع.
لكننا رأينا في مسالمة الأمن للشارع معنى آخر، هو أن الانقلاب لم يعد يخشى الشارع لثقة بلغت به حتى السماح بالتظاهر ضده. إنه يرى نفسه يحقق مكاسب فعلية دون اعتراض جوهري عليه، لذلك قلب معنى التظاهر وأصلح وجهه الانقلابي رداً على قسوته، كأنه يقول لمن هم بالداخل وللخارج المتربص به: "انظروا كم أنا ديمقراطي".
ولا نظن في هذه القراءة استهانة بالشارع المتحرك بصدق، لكن لا يمكن أن نستسلم لسهولة التحليل بتراجع المنقلب. هذا الشكل النضالي لم يعد مجدياً ولا يهدد تقدم الانقلاب في فرض خياراته، بل نراه ينتج نتيجة عكسية: استفراغ شحنة الغضب والعودة المنتصرة إلى قواعد السخرية الفيسبوكية التي صار السودانيون محترفين في صياغاتها.
إن السماح لها فيه استهانة بقوتها وفاعليتها ودورها، وفيه دعوة إلى مواصلتها ما دامت تنتهي دوماً بتبادل صور المظاهرة بفرح وسرور، والتي تثبت ديمقراطية الانقلاب وسعة صدره. طيب، هل على المعارضة أن تتوقف عن ذلك حتى لا تخدم الانقلاب؟ هذا سؤال كاشف لغياب خطة نضالية فعالة.
المرور إلى أشكال نضالية أخرى.. أو السكوت
ليس المطلوب التوقف عن المظاهرات، لكن وجب وضع حد لمظاهرات عقيمة. في هذا الكلام خلف الحاسوب مزايدة، نعم، لكن قطع طريق الانقلاب في تفكيك المؤسسات وتخريب الدولة يستحق البروز له بأشكال أكثر نجاعة.
إننا نستغرب بقاء السادة القضاة في درجة التنديد بحل مجلسهم، يصدرون بيانات التنديد والرفض ويواصلون العمل كأنهم متفرجون على مصيبة في بيت الجيران؛ وهم القادرون على العصيان المدني. لحرية القضاء واستقلاله ثمنٌ وجب دفعه من الجسم القضائي قبل غيره، فالبيانات في هذا الوضع دليل جبن سياسي. إننا نستغرب كذلك اكتفاء الأحزاب السياسية ببيانات التنديد والتعاطف مع كل عملية اعتقال لمن كانوا شركاء في السلطة الانتقالية أو أعضاء بلجنة تفكيك النظام السابق، دون نقل حركة الغضب إلى الشارع أمام المحاكم، في شكل اعتصامات مفتوحة.
سيقول كثيرون إن في هذا قطع أرزاق كثيرة، لكن السؤال الذي سيحل قريباً: هل بقي رزق ليقطع تحت سماء انقلاب غاشم؟ المحامون كذلك قادة تحركات نضالية ولهم تاريخ ناصع يراقبون من خلاله مَن يخون البلاد والعباد والمهنة والقطاع ويكتفون بحديث إعلامي مؤدب تجاه من خان الأمانة وخان الثورة. والحال أن تاريخهم كان محطات فخر لقطاعهم وللنضال الديمقراطي عامة. ما سر هذا التردد في الخروج ضد الانقلاب؟ هل هي الحسابات السياسية؟ هل هي سياسة النفَس الطويل؟
ما يقال عن مكونات جسم العدالة يقال عن بقية الجبهات النضالية التي انتظرها الناس لتحسم أمر الانقلاب، خاصة بعد ظهور مؤشرات كثيرة على فشله؛ أهمها تأخر الرواتب في الشهور الثلاثة الماضية وغلاء الأسعار واختفاء بعض الأدوية الضرورية، هذا التردد كاشف لخوف كبير من مواجهة الانقلاب ونقل المعركة معه إلى ساحة الشعب؛ الذي ينتظر بروز قيادة جديدة فعالة ولها خطة وبرنامج.
في المعركة مع الانقلاب معركة مع آثاره من بعده، وهو ما نرى المعارضات المتعددة تنكره أو تهرب منه. فالقائلون بالتريث حتى يسقط من تلقاء نفسه يتعمدون إغماض أعينهم عما بعده، إنهم يخشون تخيل الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي يخلقها ويزيد في تعفينها كل يوم.
أسمع كثيرين يقولون: "الويل لنا مما بعد الانقلاب"، ولكن كل يوم يزيده الانقلاب في إدارة البلد بطريقة معالجي سرطان الدم بالمراهم يضاعف المشاكل فيما بعده. وهذه حقيقة جلية لكل ذي نظر، فإلى متى الهروب وإلى أين؟ ما من معجزة ستحدث بعده إلا المعاناة من آثاره المدمرة التي ستتحمل تكلفتها الأمة السودانية جميعها وتسبب فيها المعارضون المترددون.
في مقدمة هؤلاء المترددين تجمُّع المهنيين السودانيين وبقية الأحزاب السياسية، إنهم جميعاً يُفرطون في تقدير الأخطار المحتملة من المواجهة ويتغافلون عن أن الخروج على الانقلاب خروج للحكم من بعده بشجاعة، مكلفة نعم، ولكنها مُنتجة لصورة كيان يتحمل مسؤوليته التاريخية في قيادة الشارع وتطمين الناس على مصيرهم من بعده.
أما لجان المقاومة المالك الحقيقي للشارع المعارض، فهي (مثل منظمات المجتمع المدني تماماً)، ليس من غاياتها الوصول إلى الحكم، لأن طبيعتها غير الحزبية هي سر التفاف الناس حولها، من ناحية، ولأن لديها مهام أخرى من حيث طبيعتها تلك في صناعة الثورة، ونعني بذلك القدرة على التحشيد وقيادة الشارع وصناعة الكتلة التاريخية الحرجة التي تلعب دوراً مهماً في إسقاط الأنظمة وشل قدرتها على التصرف، إلى جانب دورها الرقابي وممارسة الضغوط بعد نجاح الثورة.
تلك هي قواعد اللعبة التي تحرّك لجان المقاومة، بحيث يمكننا القول إن أي تغيير في قواعد اللعبة سيؤدي إلى إفساد اللعبة ذاتها، لو حاولت تلك اللجان المقاومة تحويل مكوناتها إلى أحزاب سياسية!
الخروج على الانقلاب موعد نضالي لا يتكرر، وقد دفع بعض الثمن وما زال الانقلاب يطلب الدم، ولكن للدم ثمن في زمن قادم. إذاً، التظاهرات لن تحقق الهدف منها مع تعددها وتواليها؛ لعدم وجود الحد الأدنى من القدرة على التوافق بين الأطراف المدنية.
فرصة تاريخية متاحة وهي أن من يُسقط الانقلاب يمتلك شهادة في حماية الديمقراطية، وسيكون لهذه الشهادة وزن في صندوق انتخابي قادم ولو بعد زمن بعيد (أو غير منظورٍ الآن)، والحسابات المحدودة تنتج أمجاداً قصيرة الأمد.
لنختصر: الانقلاب فاشل والجميع فقد الأمل منه، لكن معارضيه خائفون مترددون ويحسبون حسابات تجار صغار ولا يريد أي منهم دفع تكلفة المعارضة، هكذا كان وهو مستمر أمام أعين العالم، ولكنَّ معارضيه يخشون تحمُّل تكلفة إسقاطه ويحسبون مكاسبهم في ما يليه، وهذا سقوط أخلاقي ونضالي وسياسي. سأجلس بصفتي مواطناً مخذولاً من الانقلاب ومن معارضيه في مقعد المزايدة حتى أرى حركة الخروج في عصيان مدني، وأحمل بصفتي مواطناً جزءاً من التكلفة، فالأرواح بيد الله بعد.
ويشعر متابع الساحة السياسية في السودان بعد الانقلاب بأن العمل السياسي المعارض لا يسير بنسق تصاعدي، بل إن تحركات المعارضة الجدية تبدو متقطعة وتتخللها فترات هدنة وانتظار. وهذا التأني يعطي للمنقلب وقتاً طويلاً لالتقاط أنفاسه وتنظيم ردود الفعل، والتقدم نحو مزيد من تخريب المؤسسات وتعليق عجلة الإنتاج وتقدم البلاد.
ثم ما نهاية استمرار فقْد الأرواح وسقوط الشهداء شباباً في مقتبل العمر نحن في حاجة لهم؟ هل هو العجز وقلَّة الحيلة؟ أم هي خطة إنهاك طويلة الأمد لاجتناب المصادمة المباشرة للقوة الانقلابية الصلبة والقوى الواقفة مع الانقلاب بعد؟ هل هي انتظار لنجدة خارجية من أصدقاء السودان الديمقراطيين؟ (هل يوجد هؤلاء على الأرض فعلاً؟).
قد تكون كل هذه الظنون صحيحة، وقد تقدم عليها القوى الثورية أدلة، لكن هشاشة الوضع تدفع إلى الاستباق فما بعد الانقلاب صار حقيقة تراها العين، وهنا الاستباق فالمتربصون بالديمقراطية كثير.
نقد المقاومة مقاومة أيضاً
نحتاج هنا إلى توضيح أمر مهم، فمعارضو الانقلاب ليسوا جهة واحدة منسجمة في طرحها ومواقفها وتبني تحركها معاً، هناك خطان في المعارضة: الخط الأول عارض منذ الساعة الأولى بشكل مبدئي، وفي مقدمته أحزاب قوى الحرية والتغيير وتجمُّع المهنيين ولجان المقاومة ومثقفون كثر والتحق بهم جمهور واسع كلما تحركوا في الشارع. موقف هؤلاء مبنيٌّ على رفض مبدئي للانقلاب، يعمل على محو أثره القانوني والسياسي، وهذا خط.
الخط الثاني (الفلول – المحاور – الحركات المسلحة)، الذين وافقوا الانقلاب وأعطوه الشرعية الكاملة وبرروا لمكاسبه مثل فئة من "الإسلاميين" ورموز النظام المخلوع نكاية في (قحت)، لكن جزءاً من هذا تراجع لأسباب مختلفة؛ أهمها أن الانقلاب لم ينجز مطالب محددة وضعها هؤلاء شرطاً لاستمرار المساندة، ومن هذه الشروط تقاسم مغانم الحكم مع قائد الانقلاب ومعسكره (الحركات المسلحة)، ومنهم من طالب، بالخصوص بشن حرب استئصال على الإسلاميين ومن يساندهم أو يسير معهم (محور مصر والإمارات والسعودية).
وهؤلاء عارضوا الانقلاب في بياناتهم الرباعية مع دول أوروبية، لكن مِن خلف الأبواب المغلقة يدعمون الانقلاب ويوفرون له الغطاء المالي، وهذا خط المعارضة الانتهازية التي لا يضيرها أن تتمسح كل صباح بعتبات الانقلاب.
الخطان لا يلتقيان ولا نراهما يقتربان، بل نرى أدلة على أن البعض من معارضة الخط الثاني للانقلاب ليست جدية رغم أنه طردهم من حماه ولم ينالوا شيئاً؛ ذلك لأن الخط الغالب في هذا الصف هو خط فئة من الإسلاميين والرأسمالية المتمكن خاصة من مفاصل الدولة ومؤسساتها كالقضاء والجيش والخدمة المدنية العامة والإعلام، وهو متحالف مع معسكر الانقلاب تحالفاً لم يعد يخفى على أحد.
لكن هذا ليس كل المشهد، فيوجد في الدولة من يعارض بصمتٍ وتظهر معارضته و(كسلها) عن كل إنجاز. فالبلد معطل كأنه في إضراب غير معلن (أو عصيان مدني خفي)، وأغلب الناس تملَّكها الخوف من العشوائية السائدة في محيط قائد الانقلاب، وتأخُّر الرواتب عن مواعيدها أطلق موجة استياء وخوف كبير من الوصول إلى درجة الجوع.
فيمكن القول إن الجميع خائف من المستقبل القريب ولا ثقة له بالبرهان، غير أن بعضهم لا يستطيع الخروج إلى المواجهة لأسباب تتعلق بسلوك ذوي الرواتب عادة. تصريحات وزير المالية هي الدخان الذي صعد من مطبخ السلطة الانقلابية العاجزة.
أربعة أشهر من الحراك الثوري أحدثت إرباكاً حقيقياً في صف الانقلاب، ربما أضعفته، ولكن لم تُسقطه. ورغم سقوط الشهداء في المظاهرات فإن الصوت لم يعْلُ ضد الانقلاب. لقد سبَّب هذا حيرة للانقلابيين، خاصة في غياب وسيلة إعلامية تدعم الحراك اللهم إلا قناة "الجزيرة مباشر" التي تم إغلاقها وسحب ترخيص البث الخاص بها. لقد خلق المنقلب له أعداء في كل قطاع، وعندما نتأمل المشهد العام لا نجد له صديقاً غير طيف الخداع الذي ما زال يحرِّضه على الحرب الأهلية.
هل هو التعب أم التربص وتجميع القوة وترتيب الصفوف؟
تعب الشوارع ليس مَذَمَّة للعارفين بها، ولكن يسود شعور عام بأن مطاولة المنقلب أشد عليه من المواجهة السريعة الحاسمة. إن ردود فعله الغريزية على معارضيه تكشف توتره وضعفه بعد كل تحرك، وفي أحيان كثيرة صارت ردوده مشخصنة في كل إطلالة تلفزيونية يظهر فيها. وهذا فَضَحَ ضعفه وقلَّة حيلته وفقدانه للنصير، فضلاً عن أن محيطه يتآكل من الداخل بما قد يقي المؤمنين القتال. يقين كبير بزوال الانقلاب؛ لفقدانه القوة الذاتية، ويقول المثل: (لا داعي للمدفع إذا كانت المقشة كافية لقتل الذبابة).
اعتاد البرهان أن يستبق خصومه ويبادر باتخاذ خطوات مسبقة تمكنه من القبض على مفاتيح السلطة، ويحرص على وضع القوى المدنية في خانة رد الفعل، ويحاول أن يظهر قادراً على توجيه التطورات السياسية لخدمة رؤية بلوَرَها عقب انقلابه العسكري في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ولم ينتظر المكون العسكري إحكام الحصار حوله من جانب القوى المدنية باللجوء إلى الشارع، فبادر بتفريغ تحركاتها من مضامينها السياسية مبكراً، وكلما شعر بأن الخناق يضيق عليه يتبنى خطوة جديدة ضدها تُربكها.
البرهان يستغل الرَّبْكة والوضع الحالي الذي تتنازع فيه قوى الثورة السودانية اليوم، سرديات وخطابات وشعارات لبعض الأحزاب السياسية، إن دلت على شيء فإنما تدل على (سذاجة خطيرة) في موقف لا يتحمل تلك السذاجة السياسية المكلفة.
والمفارقة اليوم أن ثمّة لقاء غير مقدس في شعارات بعض أحزاب أقصى اليمين وأقصى اليسار بجامع أيديولوجيا عدمية، تضعهما في مكان واحد من اتجاهين مختلفين! فسردية رفض تدخُّل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي اليوم تجمع بين موقف الحزب الشيوعي السوداني، والمؤتمر الوطني المنحل الذي توسَّل المكون العسكري الحاكم، بأنصاره في الأيام الماضية، للقيام بتظاهرات ضد تدخل الأمم المتحدة في شؤون السودان!
قدَّم البرهان ما يراه طرحاً شاملاً يتكون من محاور يتوهم أنها قادرة على تجاوز الأزمة السياسية، في لقائه مع وفد مفوضية الاتحاد الإفريقي مساء الأحد الماضي، مستبقاً إعلان البعثة الأممية قريباً عن نتائج المشاورات التي أجرتها مع مجموعات سياسية وأهلية عديدة بعد أن أنهت المرحلة الأولى من المباحثات. ليبين للجميع أنه مُبادر ومتعاون من أجل انهاء الأزمة الحالية!
ما بعد الانقلاب
تحتاج الأحزاب السياسية السودانية وقوى الثورة المعارضة للانقلاب أن تمر وبسرعة إلى ما بعد البرهان والانقلاب، وأن تضع الخطط والأفكار الكبرى لمرحلة حكم بعيداً عن الجنرالات ودون الاستئصاليين، وتؤلف صفاً سياسياً ديمقراطياً حول إعلان سياسي جديد. فإذا كان التريث في إسقاط المنقلب مفهوماً ومبرَّراً، فإن التريث في الاستعداد للحكم من بعده سيترك الباب مفتوحاً لموجة ثانية من الانتهازيين والانقلابيين. ولا نعتقد أن هذا الصف غافل، بل يجب أن نلتقط إشارات كثيرة على استعداده لما بعد الانقلاب.
متى تبدأ هذه الاستعدادات؟ كل المؤشرات، خاصة تصريحات قادة الحركات المسلحة فيما يخص الترتيبات الأمنية وتباطؤ الانقلابيين في القيام بواجباتهم تجاهها (أركو مناوي نموذجاً) والتي كشفت عن صراع مميت داخل أروقة قصر الانقلاب، هذا الصراع يجب أن يدفع إلى رفع نسق الاستعداد لما بعده، على الأقل وضع خطوط عامة لبرنامج حكم ما بعد الانقلاب.
ومن لم يلتقط هذا أظن أن تهاونه في الشارع عجز لا تكتيك. بلا معطيات دقيقة وبلا معرفة بالكواليس المحلية والدولية إلا تخميناً، أحاول تلخيص الوضع في السودان بعد شهور أربعة من الانقلاب. لا أحد يحكم السودان الآن، ويوشك المرء أن يقول إن قدرة الله الخاصة تحمي البلد من الفوضى والانهيار.
نُذر أزمة اقتصادية لا مثيل لها في تاريخ البلد تجثم على الصدور، ووراءها تتخفى أزمة اجتماعية قد تعصف ببقية دولة لا تفلح في شد حزامها. لقد اتضحت تقريباً مراكز القوة في البلد بشكل غير مسبوق، وعرف كل أناسٍ مشربهم.
هناك مراكز (قوة مالية وبشرية) نافذة وتخطط مستقبلها (ميليشيات السحل السريع) -قوات الدعم السريع- وقوى دولية تخطط في مكاتبها لضمان مصالحها المحلية وتتحرك في الكواليس بجرأة منقطعة النظير، وقوى سياسية مهزومة وتملك قدراً كبيراً من الشارع وتخطط للبقاء والعودة، وحركات مسلحة وضعت بيضها في سلة الانقلاب وهي تخسر امتيازاتها، فتارةً تراهن على العودة إلى الحرب وتارة أخرى تهدد على احتمال فوضى أخير قد يُنقذها من اختياراتها الفاشلة. وهناك قناعة ثابتة لدى الجميع يبنون عليها بيقين، سيسقط الانقلاب والجميع يخطط لما بعده، مستقوياً بالمال مرة وبالشارع أخرى.
سيظل الشارع يأكل من رصيد الانقلاب، ويظل الانقلاب يؤجل الحلول عبر ترتيبات قاصرة مع جهات حائرة وعاجزة. قد تُدفَع أثمان سياسية كبيرة، لكن الثمن الأكبر هو إعلان عجز الدولة ووقوعها تحت سلطة لجنة مالية أجنبية تملك ساعتها أن تفرض شروطها على وطن ممزق ودولة فاشلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.