هل تعد القراءات القرآنية تحريفاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/02/16 الساعة 10:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/16 الساعة 10:48 بتوقيت غرينتش
نسخة قديمة من المصحف الشريف/ Istock

(1)

من الأمور الطريفة أن الناس جيلاً بعد جيل يخلطون بشكل شبه آلي بين الحروف السبعة والقراءات السبعة، ويظنون أو يتوهمون أن كل قراءة من القراءات السبعة تكون بأحد الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن كما في الحديث النبوي. وهذا الوهم قديم بالمناسبة، وسأحاول تبسيطه هنا بشكل تاريخي.

(2)

لا بد أن نفهم بدايةً المقصود بالحروف السبعة التي نزل بها القرآن كما في الحديث النبوي الشهير: "إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسّر منه".

ونصّ الحديث هو ما جاء في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَىَ غَيْرِ مَا أَقْرَأُهَا. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِيهَا، فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ، ثُمّ أَمْهَلْتُهُ حَتّى انْصَرَفَ، ثُمّ لَبّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَىَ غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْسِلْهُ. اقْرَأْ" فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ". ثُمّ قَالَ لِيَ: "اقْرَأْ" فَقَرَأْتُ. فَقَالَ: "هَكَذَا أُنْزِلَتْ. إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. فَاقْرَأُوا مَا تَيَسّرَ مِنْهُ".

وفي رواية "على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". وثبت أيضاً من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ".

البعض يرى أن رقم سبعة يدل على الكثرة، وأن القرآن بالتالي نزل على أحرف كثيرة لا حصر لها. وهذا بالطبع خطأ؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال "سبعة"، ولو كانت أكثر لقال أي رقم آخر؛ لأن الأمر في الدين يقتضي الوضوح وليس الترميز والغموض، ومن الخطأ تقويل النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقُله.

(3)

كيف ظهرت القراءات؟

الأرجح أنه رغم كثرة القبائل العربية فإنه كان يمكن إرجاعها من حيث اللهجة إلى سبع مجموعات كبرى، توجد تباينات بين لهجة كل منها. ومن هذه المجموعات قريش وما حولها، والتي يتحدث النبي (صلى الله عليه وسلم) بلهجتها، والتي نزل بها القرآن بدايةً فصارت مقياساً.

المشكلة أن أهل المجموعات الأخرى كانوا ينطقون الكثير من الكلمات العربية بشكل مختلف عن قريش، ولكن دون أن يتغير معناها. على سبيل المثال قبيلة هذيل كانت تنطق كلمة (حتى) هكذا (عتى)، فعندما تأتي في القرآن عبارة مثل "حتى حين" تجد أهل هذيل ينطقونها (عتى حين)، وهذه قراءة عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) لأنه من هذيل.

وكما ترى، فإن المعنى لم يتغير، ولكن جهازهم الصوتي يثقل عليه نطق "حتى" بطريقة القرشيين. وحلاً لهذه المشكلة أباح النبي في حديثه أن يقرأ أهل كل قبيلة أو مجموعة بالحرف الميسور لديهم، ولكن دون تغيير المعنى كما يدعي البعض.

(4)

وظلّ هذا الوضع قائماً حتى خلافة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) عندما بدأ أهل كل مِصر من الأمصار يتمسك بقراءة معينة لأحد الصحابة، تبعاً لقبيلته أو لحرفه، ويرمي الآخرين بالخطأ في قراءة القرآن.

وبعد نقاشات قرّر عثمان (رضي الله عنه) أن يفرض قراءة النبي (صلى الله عليه وسلم) ويلغي بقية القراءات أو الأحرف؛ لأن الأمور تغيرت، ولم تعد هناك حاجة لهذا التيسير النبوي في قراءة القرآن. وهذا يشبه اجتهاد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم، رغم النص القرآني، لأن الإسلام قوي واشتد، ولم يعُد في حاجة لتآلف قلوب أحد.

أو ربما رأى عثمان (رضي الله عنه) أن الأثر اللغوي الضخم للقرآن على عربية العرب جعل الأجيال الجديدة قادرة على نطق القرآن على حرف قريش، الذي نطق به النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ ولذا قرر انتساخ المصاحف بلسان قريش وجمع الناس عليه.

فشكّل لذلك لجنة مكونة من زيد بن ثابت (وهو مدني)، وثلاثة من القرشيين هم: سعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وقال عثمان للقرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل القرآن بلسانهم"؛ أي بلهجتهم.

وتوجد قصص كثيرة عما كان يحدث بين هؤلاء الكتاب الأربعة وعثمان (رضي الله عنه) وكلها كانت حول الطريقة المثلى لكتابة القرآن، وكان لدى عثمان الرأي الحاسم دوماً لحل أي خلاف، ولهذا كله يسمى المصحف الذي كتبوه بـ"مصحف عثمان" نسبةً إلى عثمان (رضي الله عنه)، وليس لأن خطاطاً تركياً اسمه عثمان كتب مصحفاً بعد مئات السنين كما يدعي البعض!

(5)

إذن عثمان كخليفة هو الذي اتخذ (قراراً رسمياً) ونفذه. ثم أمر بجمع ما كان مع الناس من كتابات قرآنية (غير رسمية) وحرقها، وهذا ما نفعله الآن بالمصاحف المزورة أو المتهرئة اقتداءً به. وقد وافق الصحابة على اختلاف قبائلهم على ما فعل عثمان (رضي الله عنه)، بل وفرحوا بذلك، حتى إن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) كان يقول: "لو لم يصنعه عثمان لصنعته".

(6)

وبعث عثمان للأمصار بالمصاحف التي نسخها، وزاد فبعث مع كل مصحف قارئاً (رسمياً) متخصصاً؛ كي يُقرئ للناس بقراءة النبي (صلى الله عليه وسلم) ويُعلِّمهم، ولذلك يقال دائماً إن "القراءة سنة". وكان كل قارئ يُجلس الناس في دوائر، في كل دائرة عشرة، عليهم عريف يعلمهم، ومن ينتهي يراجع على الصحابي أو التابعي فيما بعد. المهم أن كل واحد من هؤلاء القراء الذين أرسلهم عثمان مع المصاحف أصبح علماً على مدرسة في القراءة (بحرف قريش بالطبع).

ومع مرور الزمن ذهب جيل القراء من الصحابة، ثم جيل تلاميذهم من التابعين وتابعيهم، وفي القرن الثاني الهجري ظهر جيل من القراء كان يعتمد على "الاختيار" من مدارس القراءات المختلفة، على أساس من موافقة خط مصحف عثمان، فظهر في هذا القرن عدد كبير من أعلام القراء. وقد حاولت مرة أن أحصيهم فتيسّر لي ستة عشر اسماً، من أشهرهم العشرة المعروفون: (نافع بن عبد الرحمن وعبد الله بن كثير وعاصم بن أبي النجود وحمزة بن حبيب والكسائي وأبو عمرو بن العلاء واليحصبي وأبو جعفر القارئ ويعقوب بن إسحاق وخلف بن هشام).

وكان لكل منهم قراءة تتميز بشرطين أساسيين هما: أنها صحيحة السند إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) لأن القراءة كما سبق سنة، وأنها موافقة لخط المصحف، أي أن القراءة لا بد أن تتبع الحرف القرشي صوتاً ورسماً. أما الاختلافات التي نجدها بينهم فتأتي غالباً من اختلافهم في تشكيل ونقط بعض حروف الكلمات، لأن مصحف عثمان كما نعرف كان غير منقوط وغير مشكل (ربما عن قصد).

ويوجد شرط ثالث اختُلف فيه، وهو أن تحتمل القراءة وجهاً من وجوه اللغة العربية، وهذا في رأيي تزيّد؛ لأن القراءة ما دامت صحيحة السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أنها تحتمل وجهاً من وجوه اللغة العربية، لكن المهم هنا أن شيوخ الإقراء كانوا يحاربون أي قراءة لا تلتزم بهذه الشروط، ويقضون عليها سريعاً، وتوجد قصص معروفة في هذا المجال.

(7)

القراءات سبع أم عشر؟

وفي القرن الرابع الهجري برز عالم قراءات مهم جداً هو أبو بكر بن مجاهد (ت. 324 هـ)، الذي ألف كتاباً عنوانه "السبعة في القراءات"، اختار فيه أول سبعة من القراء السابق ذكرهم، واعتبرهم أصح القراءات.

وقد شاع الكتاب واشتهر جداً، لدرجة أن الناس بدأت تظن أن القراءات الصحيحة سبع فقط، وما عداها شاذ! وبدأت تخلط كذلك بين الأحرف السبعة والقراءات السبع، بل ويظنون أن كل قراءة من القراءات السبع تكون بحرف من الحروف السبعة، مع أن الأمر كما ترى مختلف، لأن كل القراءات هي بحرف واحد هو الحرف القرشي، الذي قرأ به النبي (صلى الله عليه وسلم)، وجمع عثمان الناس عليه، أما القراءة بالأحرف الأخرى فانتهت على يد عثمان كما سبق.

(8)

السؤال الآن: هل هذه القراءات تعد تحريفاً؟ والإجابة هي النفي بالطبع، هذه الفكرة التحريفية لم تظهر إلا حديثاً، والظن أنها ظهرت تأثراً بالاستشراق؛ لأن الفكرة موجودة عند المستشرقين منذ القرن 19 وحتى الآن.

أما في التراث الإسلامي فالغالب فيه أن وجود القراءات من أكبر الأدلة على إعجاز القرآن؛ لأنها تدل على غنى القرآن الذي لا ينفد، والفكرة تعود للإمام ابن الجزري في كتابه "النشر في القراءات العشر". القرآن به آيات بينات واضحات مثل آيات الأحكام والعقائد وهي قليلة بالمناسبة.

ولكن أغلب القرآن له معانٍ متعددة متجددة لا تنفد، وهذا ما جعل ابن الجزري يرى القرآن نصاً مفتوحاً بسبب تعدد القراءات القرآنية، وبالتالي لن يستطيع بشر ولا حتى جيل أن يحيط بمعاني القرآن الثرية وغير المحدودة.

وهو يرى أن كل هذا التنوع الذي تثيره القراءات الصحيحة هو جزء من الوحي أيضاً، ولذا فكل هذه القراءات والمعاني المتعددة صحيحة رغم شهرة بعضها أكثر من الأخرى.

ولهذا السبب يقول ابن الجزري: "فإن علماء هذه الأمة لم تزل من الصدر الأول وإلى آخر وقت يستنبطون منه الأدلة والحجج والبراهين والحكم وغيرها ما لم يطلع عليه متقدم، ولا ينحصر لمتأخر، بل هو البحر العظيم الذي لا قرار له ينتهي إليه، ولا غاية لآخر يوقف عليه".

(9)

لماذا يحدث هذا؟

هنا جاء ابن الجزري بإجابة عبقرية بالفعل، عندما قال بعد الفقرة السابقة: "ومن ثَم لم تحتج هذه الأمة إلى نبي بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كما كانت الأمم قبل ذلك، لم يخلُ زمان من أزمنتهم عن أنبياء يحكمون أحكام كتابهم ويهدونهم إلى ما ينفعهم في عاجلهم ومآبهم".

أي أن الأمم السابقة كانت نصوصها الدينية ثابتة جامدة، لا تنوّع فيها؛ لذا كانت تتقادم، ومن ثم تحتاج لأنبياء جدد. أما القرآن بتجدده وتنوعه الناتج عن القراءات، فيسبب عدم احتياجنا لأنبياء بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

وبالتالي لو سمعنا كلامَ من يقول إن للقرآن قراءة واحدة ثابتة فإننا بذلك نتخلى عن جزء من الوحي، ونجمد القرآن، ونقلد بذلك اليهود والنصارى في تثبيت وتجميد الوحي لديهم، وهذا كما نعرف تقليد نهينا عنه.

فكما ترى نظرة العلماء القدامى للقراءات، خاصة ابن الجزري، كانت متقدمة جداً وحداثية جداً. والعجيب أننا تخلفنا عنها وتردينا في وهدة التخلف الذي يرى القراءات القرآنية نوعاً من التحريف. بينما هي كلها صحيحة، وتعد جزءاً من الوحي، وهي دليل أكيد على إعجاز القرآن وعلى محدوديتنا نحن كبشر.

وهنا سأعطي مثالاً يوضح المقصود بأن القراءات كلها صحيحة: في سورة الفاتحة آية (ملك يوم الدين) تُكتب مع ألف صغيرة بعد الميم؛ لذا تُقرأ في قراءة (مالك)، وفي أخرى (مَلِك)، وبتشكيل متنوع، فهل أحدهما أصل والثانية تحريف؟ بالطبع لا، ولكن كلاهما صحيح، وكلاهما أصل، ولكن واحدة أشهر من الثانية. وكلاهما صحيح لأنك عندما تتأمل الأمر تجد أن الله سبحانه هو في الوقت ذاته (مالك) و(ملك) ليوم الدين، فلا تناقض هناك ولا تحريف. (وهنا يمكن أن أحيل لكتاب "ثقافة الالتباس" لتوماس باور فيه تفصيل أوسع).

(10)

"طيب ماذا نفعل ونحن مسلمون غلابة و"على قدنا" كما يقال؟"

رأيي هو إذا كنت غير متخصص في القراءات فالأصلح ألا تشغل بالك بهذا التنوع، وتقبل القراءة الشهيرة التي تعرفها، وهي أوسع وأعرض وأعمق من أن نحيط بمعانيها كبشر في حياة واحدة. المهم أن تعرف أن غنى القرآن وثراءه وعجائبه لا تنفد، وأن القراءات ليست تحريفاً، بل هي أحد أهم أسباب ذلك الغنى والثراء.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد