كيف تعلم العسكر في مصر درس يوليو 1952.. ولم يتعلمه الثوار حتى الآن؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/02/15 الساعة 15:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/15 الساعة 15:19 بتوقيت غرينتش
دبابة للجيش المصري في ثورة يناير 2011/ Istock

الصراعات بمعناها الشمولي هي جزء لا يتجزأ من الحياة، ومهمة في تشكيل وعي الشعوب وتحديد مصائر دول وإمبراطوريات عُظمى، وفي خضم السطور التالية نتحدث عن "صراع القاهرة" الذي نشب مع مطلع الجمهورية المصرية وأُجج الخلاف بين أطراف الصراع بعد ثورة يوليو/تموز وعلى مر الزمان لم ينتهِ حتى وقتنا هذا.. فبدأ جيل تلو الآخر يصارع لتحديد مصير الجمهورية المصرية المدنية.

بداية صراع العسكر في مصر بيوليو/تموز

في 18 يونيو/حزيران عام 1953 أعلن السياسي والعسكري المصري اللواء "محمد نجيب" الجمهورية المصرية بعد الإطاحة بالملك "فاروق" في 23 يوليو/تموز عام 1952، من هنا بدأ الصراع الذي نتج عنه عدم تحديد مصير مصر حتى وقتنا هذا.

بعد أن تولى "محمد نجيب" حكم مصر ليصبح أول رئيس للجمهورية الجديدة، وجمال عبد الناصر لرئاسة مجلس الوزراء، ولملم الضباط الأحرار فيما سمى "مجلس قيادة الثورة" لم يمضِ وقت طويل حتى اندلعت الصراعات بين أطراف النزاع الذي انقسم إلى شطرين؛ الأول نجيب ومؤيديه، والثاني ناصر وأتباعه أي "النخبة العسكرية" التي كانت الأغلبية في مجلس قيادة الثورة.

في كتاب "كنت رئيساً لمصر" قال اللواء نجيب: "إننا طردنا ملكاً وجئنا بثلاثة عشر ملك آخر"، وهنا كان بالفعل عدد من الضباط شهوداً من داخل المؤسسة العسكرية على انحرافات ضباط مجلس الثورة، الذين استباحوا ما وجدوه، بداية من سرقة ممتلكات الملك فاروق الذي لم يخلُ تاريخه من الفساد والحماقات المزرية، مروراً بالعلاقات غير الشرعية ولعب القمار وظهور الثراء على أغلبهم بالاستحواذ على القصور والفلل التابعة للعهد الفائت بحجة أنه حق وجب الظفر به في جيوبهم!

لتحدث المشاحنات بين بعضهم بعضاً فأصبح بين جهتين، جهة أغلبية المجلس وعلى رأسهم ناصر وعبد الحكيم عامر ومن جهة نجيب ورفاقه، لكن الأغلبية كان لها دور في فرض الرأي والتضييق على اللواء نجيب حتى قدم استقالته وعاد مجدداً بعد أن اندلعت الاحتجاجات في مصر للمطالبة بعودته.

محمد نجيب الذي كان بالمرصاد معارضاً مستميتاً لسياسات المجلس من قمع المعارضين والاستيلاء على الصحف وإصدار إعدامات جائرة بحق كل من يعلو صوته حتى لو كان ضمن المؤسسة العسكرية.

ليرفع اللواء نجيب في ساحة الصراع شعار "عودوا لثكناتكم والأولوية لمدنية الجمهورية الجديدة"، وفي الضفة الأخرى رفع ناصر وعامر شعار "تسقط الديمقراطية بحريتها.. وتحيا الثورة"، فدائماً ما يستخدم الطغاة شعارات وسرديات تغطي على غاياتهم الحقيقية، مثل: الثورة، الدين، الحرية، العدل، الرفاء.. إلى آخره.

بدأ ناصر في التخلص من رجال نجيب واحداً تلو الآخر وبدأ تدشين ثورة مضادة ضده بعد أن اتهم نجيب بصلته بحادث إطلاق النار على عبد الناصر في أكتوبر/تشرين الأول عام 1954، وعلاقة جماعة الإخوان المسلمين بما حدث وحظر الجماعة بعد حلها من قبل بتهمة التآمر، بل قام رجال المخابرات بتوزيع منشورات ضد نجيب وزرع أفراد لتهييج الجماهير.

"بعد أن كانوا في الأمس يوزعون صور نجيب ومعها عملة (العشرة صاغ) على الجماهير من أجل زيادة شعبيته، اليوم يوزعون السخط في النفوس بين العوام".

من جهتها، جماعة الإخوان المسلمين انضمت لصف عبد الناصر بعد ما وجدوا محمد نجيب رافضاً لأفكارهم ورغبتهم في التغلغل في حكم مصر، فقال عنهم نجيب في مذكراته: "مشاعري معهم.. مع الإخوان.. رغم أنهم تخلوا عني وعن الديمقراطية ورفضوا أن يقفوا في وجه عبد الناصر إبان أزمة مارس/آذار، بل وقفوا معه وساندوه بعد أن اعتقدوا خطأً أنهم سيصبحون حزب الثورة ".

في جميع السطور السابقة بما فيها من أحداث وتفاصيل ذكرت ولم تذكر، لم يلعب الشعب دوراً رئيسياً في تحديد مسار الوطن، بل كان الصراع مقتصراً بين نجيب وناصر، بين الديمقراطية والديكتاتورية.

فلم تشهد مصر منذ ثورة 1919 حدثاً شعبياً له صدد وناتج قوي يغير موازين القوى، إلا بعض الحراك والاحتجاجات كالمظاهرات التي طالبت بعودة نجيب والاحتجاجات العمالية والطلابية، كانت جميعها تراكمية مثلها مثل احتجاجات 20 سبتمبر 2019 التي طالبت برحيل الرئيس عبد الفتاح السيسي.

دولة مبارك البوليسية

تولى حسني مبارك الحكم بعد ثمانية أيام من اغتيال السادات معلناً استمرار الحكم العسكري في مصر بعد استفتاء شعبي، لكن تعلم درسين أولهما أدرك خطورة الجماعات الإسلامية وتنظيماتها عليه والحكم، والثاني مدى أهمية أساليب نخبة عبد الناصر في الاستمرارية على عرش مصر.

لكن وجه الاختلاف بينه وبين من سبقه هو استعانته بالأجهزة الأمنية واستبعاد الجيش عن الساحة المصرية وخلق الدولة البوليسية.

لكن مبارك كان مميزاً عن باقي أسلافه لأنه استطاع أن يكون سياسياً مخضرماً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أنه لم يقضِ على الإسلاميين، بل جعلهم تحت النظر، يلقي بهم في السجون بشكل متقطع، واشتهر في تلك الفترة أن الإسلاميين كانوا يضعون دائماً حقيبة ملابسهم خلف الأبواب تحسباً إذا جاء "زوار الفجر" ليكونوا على استعداد للاعتقال.

وأيضاً تحدث بعض رجال السلطة أن تلك الاعتقالات وصلت إلى أنهم يخبرون الإسلاميين بشكل مسبق بأنهم "سيلقون القبض عليهم".

من عاصر تلك الحقبة يعرف جيداً أن مبارك يستعمل سياسات واضحة عكس ما حدث بعد "ثورة يوليو/تموز" التي على حد الحكايات والأحداث التي ذكرها "محمد نجيب" كان يوجد بها حالة من التخبط في القرارات، وردود الأفعال لدى "مجلس الثورة"، حتى إنه وصل بهم الأمر أن يعقدوا جلسة لتحديد سعر الطماطم وأن يشرف الجيش على تنفيذ القرار في الأسواق دليلاً على الفقر السياسي لدى الضباط.

سياسات مبارك جعلته في حكم مصر طيلة ثلاثين عاماً بغير وجه حق، وبنى على حساب المواطن "مجداً" ظل قائماً طوال تلك السنين غافلاً عما أجرم في حق الشعب من جهل وتعذيب وفقر وبطالة وفساد. لقد طال الفساد في عهده كل شيء من أعلى الهرم إلى أسفله.

ففي تلك الأعوام ما بين 2008 و2009 بلغ معدل البطالة حسب جهاز التعبئة والإحصاء 20.4% من الشباب العاطل عن العمل. وارتفاع معدل الفقر إلى 21.6% واحتلت مصر المرتبة 124 من أصل 133 في جودة التعليم، أما عن الصحة رغم الحالة المتردية التي شملت المستشفيات الحكومية فلا يوجد إحصائيات توثق جودة الصحة في مصر حتى الآن لكن القاصي والداني يدرك جيداً تاريخ الصحة في مصر بداية من الخضراوات المسرطنة حتى القطط والكلاب في أروقة المستشفيات.

ومن الأكيد أن سياساته هي ما أودت به إلى "السجن" وأكاد أجزم أن عبد الناصر لو لم يقبض الله روحه لكان الشعب فعلها، وأن السادات لو لم يُقتل لكان الشعب أسقطه.

"دائماً ما يدق المظلومون طبول الحرب معلنين الخلاص، لتسقط أعظم الإمبراطوريات أمام أجسادهم المقهورة، دائماً ما ينتصر الحق".

فلو كانت توفرت بعض العوامل لثار الشعب في وجه نظام ناصر والسادات لكن لم يأتِ أوانه، حتى ثار الشعب في ربوع مصر من جديد في 25 يناير/كانون الثاني عام 2011 وسقط الشهداء وتأجج غضب الشعب وخاصة الشباب معلنين قيام الثورة المجيدة كاتبين على جدران التاريخ مجداً يتعلم منه من أراد أن يثور.. وبأجسادهم المقهورة سقطت دولة مبارك البوليسية.

العسكر في مصر، الجيش المصري، ثورة يناير 2011، التحرير
أفراد من الجيش المصري في ميدان التحرير يحيون الثوار خلال ثورة يناير 2011/ Istock

وتولت جماعة الإخوان المسلمين الحكم بتصويت الأغلبية ليصبح الرئيس الراحل محمد مرسي أول رئيس مصري منتخب، لكن ما حدث أن الإخوان- حسب رأيي- أرادوا فعل ما كانوا يريدون أن يفعله نجيب بالتغلغل في حكم مصر، وظنوا أن "ناصر" سيقف معهم فدنوا ناحية المجلس العسكري بعد تولي الحكم عام 2012.

وقامت الثورة المضادة وأسقط الإخوان من الحكم وحدثت مجزرة رابعة العدوية والنهضة لنعود لما كتبه محمد نجيب في مذكراته حين وقف الإخوان بجانب ناصر:

"إنهم سيضحكون على عبد الناصر ويطوونه تحتهم فإذا بعبد الناصر يستغلهم في ضربي وفي ضرب الديمقراطية وفي تحقيق شعبية له بعد حادث المنشية. إن الإخوان لم يدركوا حقيقة أولية هي إذا ما خرج الجيش من ثكناته فإنه حتماً سيطيح بكل القوى السياسية والمدنية ليصبح هو القوة الوحيدة في البلد".

عودة نخبة ناصر

لم يكتفِ النظام بالقضاء على الإخوان والمجزرتين (رابعة والنهضة)، بل اعتقل "كل من هب ودب" في ثورة يناير/كانون الثاني من رموزها إلى من شارك بها حتى لا يعلو صوت فوق صوت "الحرب على الإرهاب"، لنلتفت ناحية مذكرات اللواء نجيب حين قال عن السلطة العسكرية "إنه لا يفرق في هذه الحالة بين وفدي وسعدي ولا بين إخواني وشيوعي وإن كل قوة سياسية عليها أن تلعب دورها مع القيادة العسكرية ثم يقضى عليها، لكن لا الإخوان عرفوا هذا الدرس ولا غيرهم استوعبه، ودفع الجميع الثمن، ودفعته مصر أيضاً، دفعته من حريتها وكرامتها ودماء أبنائها، فالسلطة العسكرية أو الديكتاتورية العسكرية لا تطيق تنظيماً آخر، ولا كلمة واحدة، ولا نفساً ولا حركة، ولا تتسع الأرض إلا لها ولا أحد غيرها".

وللأسف لم تدرك القوى السياسية ذلك إبان الثورة ذلك ولم تتعلم الدرس جيداً، ثم ما إن استحوذت النخبة العسكرية على الحكم حتى أطاحت بجميع القوى على الساحة المصرية.

وبدأت عملية السيطرة الكاملة على الدولة من جديد وعادة نخبة ناصر وعاد الغضب دفيناً وعادة شعارات الثورة منكوبة.

لقد تعلمت النخبة العسكرية درس "يناير/كانون الثاني" وأدركت اللعبة جيداً وأدت دورها "الوجودي" على أتمِّ وجه والفضل يعود للمشير "محمد حسين طنطاوي" الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة في الحفاظ على "عسكرية الدولة" ليصبح رفاقه وأبناؤه العساكر هم النخبة العسكرية الحالية.

لقد اتبعوا نهج عبد الناصر بحذافيره مما جعلهم يتعايرون بملف "حقوق الإنسان" بين أمم الغرب ومجالسهم.

الصراع المرتقب

رغم تفوق واختلاف جيل يناير/كانون الثاني عن الأجيال التي سبقته فإن النظام استطاع أن يكسب جولة "يناير/كانون الثاني" بداية من بعد 25 يناير حتى 30 يونيو، لكن فشل في تحسين الأوضاع المختلفة وأهمها بحسب جهاز التعبئة والإحصاء معدل الفقر الذي تدنى حتى وصل إلى 32.5%، 13% منهم يعانون من الفقر المدقع مع الزيادة.

وأخيراً بعدما طرحنا الأسباب، أدركنا "لماذا فشلت يناير/كانون الثاني" والربيع العربي أجمع، فيجب أن يدرك الجميع الحقيقة الأولية وأنهم في صراع داخلي حقيقي كالذي خاضه نجيب وناصر، كان نجيب وحيداً من أجل شعب لم يعِ بعد، أما الآن فهم شعب على قدر معقول من الوعي رغم محاولات تجهيلهم لعقود، فالشعوب المقهورة التي صرخت مرة ستصرخ ألفاً.

قد نقول إنه تم القضاء على كثير من جيل يناير/كانون الثاني، بعد أن كانوا في الأمس مستلقين على أرصفة الوطن يهتفون بحريتهم، اليوم ستجدهم في الشتات فمن مات عاش والطليق سجين في ذات الوطن والجدار العتيق، ومن هرب رسم على جدران العالم معاناة وطنه الجريح.

المهم، أدركنا أن هذا النظام هو ذات الأنظمة الفائتة مع بعض الحداثة التي خُلقت مع مرور الزمن والتجارب التي أهمها ثورة يناير/كانون الثاني، والأكيد أن هذا النظام وهذه النخبة لن تستطيع خوض وكسب الصراع المرتقب بينهم وبين جيل "الألفينات" الذي ولد مع مطلع ثورات الربيع العربي، غير حداثة فكرهم وانفتاحهم على العالم بشكل أكثر وأدق من جيل يناير/كانون الثاني.

من ثاروا في أحداث "محمد محمود" عائدون من جديد، وإن أكبر خطر على النظام الحالي هو أن يلتقي الجيل الأول بالثاني، عندئذٍ سيصيرون مسماراً في نعش النخبة.

ومن ذاك المنطلق نستطيع القول بأريحية:

"إن الفكرة خالدة لا تموت.. تعبر بين حواري الأزمنة وتتناقلها الأجيال.. تسطع بسطوع الحق إذا كانت عليه، وتفنى للعدم إن كانت على باطل".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد جاد
كاتب مصري
مدون سياسي مستقل وعضو منظمة العفو الدولية
تحميل المزيد