بأعصاب مشدودة، انتهيت من قراءة رواية "المسخ"، للكاتب التشيكي الأصل الشهير "فرانز كافكا"، أحد رواد المدرسة العبثية، وأشهر من كتب في الأدب السوداوي، ربما بسبب علاقته المتوترة مع والده آنذاك، وربما بسبب فترة الحرب التي عاشها في ذلك الوقت، أو بسبب تأثره بقصة حبه المستحيلة مع ميلينا، التي نالت من قواه، وأوقعته طريح الاكتئاب، كل ذلك ساهم في تكوين شخصيته الأدبية التهكمية، قبل أن يموت في سنٍ مبكرة بسبب مرض السل، وهو في بدايات الأربعين من عمره، حيث رحل بعد أن ترك لنا إرثاً أدبياً أبهرنا بسرديته الكابوسية.
وُلد فرانز كافكا لأسرة تشيكية يهودية، في 3 يوليو/تموز من عام 1883، وتوفي في 3 يونيو/حزيران من عام 1924، ويعد أحد أفضل الأدباء في عصره، برع في فن الرواية والقصة القصيرة، وأهم ما تركه خلفه هو الرسائل التي كان يرسلها لحبيبته ميلينا، والتي كشفت عن شخصيته المضطربة.
المسخ.. قنبلة أدبية
لقد أسقط فرانز كافكا قنبلة أدبية في بداية روايته الكابوسية "المسخ" التي نُشرت لأول مرة عام 1915، حيث قال: "استيقظ جريجور سامسا من أحلامه المزعجة صباح يوم ما ليجد نفسه في سريره متحولاً إلى حشرة عملاقة". بضع كلمات كانت كفيلة لأن تأسر القارئ، وتجبره على أن ينهي الرواية في ساعات قليلة.. وهذا بالضبط ما حصل قبل أن أبدأ بكتابة هذه التدوينة، وأستيقظ في صباح اليوم التالي بسبب كابوس مُزعج أصابني بالقشعريرة، وأعتقد أنه من مُخلّفات رواية "المسخ".
قصة الرواية
تتحدث رواية المسخ عن بطل القصة "جريجور سامسا"، الذي تحوّل بطريقة ما إلى حشرة ضخمة قذرة ذات صباح، بعد أن استغرق في النوم على وقع كابوس مُرعب، وعليه أن يتكيّف مع واقعه الجديد. أصبح وجوده في المنزل يشكّل عبئاً على أسرته، بعد أن كان مسؤولاً عن مصاريف المعيشة ومصدر الدخل الوحيد للعائلة، ومع مرور الوقت، تخلّت عنه أسرته وأصبح عديم الفائدة والقيمة بالنسبة لهم، كما تخلى عنه مديره في العمل واتهمه بالتسيب والإهمال عند أول يوم غياب، مع العلم أنه لم يتغيّب يوماً عن العمل خلال السنوات الخمس الأخيرة قبل مسخه.
لقد لفظه كل المجتمع من حوله، وأصبح مغترباً ومنعزلاً في حجرته، يستمع من وراء الباب إلى حديث عائلته عنه بكل ما تحمله الكلمات من قسوة وظلم، إلى أن مات تحت مكنسة الخادمة ذات يوم، وراحت تزف خبر وفاته وكأنها تحمل خبراً ساراً "انظروا لقد مات، إنه يستلقي هنا ميتاً هالكاً"، ويفرح والده بموته "والآن لنرفع الشكر للرب" ورسم على صدره علامة الصليب، ومثله فعلت أم جريجور وأخته جريتا.
في نقد العالم الرأسمالي
ليس المهم الشكل الذي أصبح عليه جريجور في مسخه، بقدر ما هو مهم طرح مسألة الوجود الإنساني من وجهة نظر كافكا في هذه الرواية الرمزية التي تكشف لنا عن فظاظة العالم وسوداويته في رواية المسخ، التي قال عنها النقّاد إنها تهكمية من النظام الرأسمالي المادي، الذي لا يعطي بالاً للعلاقات البشرية الإنسانية، والذي تمثّل في أسرة جريجور، حيث كان كل همها هو مصاريف المنزل، وعبء جريجور عليه.
لقد كان كافكا قاسياً حتى على بطل قصته -الذي من المفترض أنه ضحية الرواية- ووصفه بشكل دقيق بذي الأرجل المذببة، يفرز مادة بنية لزجة قذرة، متسائلاً في لحظة عزف أخته "جريتا" على آلة الكمان "هل كان حيواناً، إذا كان للموسيقى كل هذا التأثير عليه"؟
كلمة السر في كافكا
على الرغم من أن "المسخ" تُصنف تحت مسمى الروايات الخيالية، لكنها لم تُكتب بمنأى وتجرّد عن شخصية الكاتب. يعني أنها كُتبت بمشاعر صادقة من كافكا الذي قال هو نفسه "قصصي هي أنا"، ولخّص حياته بأنها محاولة للكتابة.
بمعنى آخر: لو قورنت المسخ برواية أخرى من الخيال العلمي -وأقصد هنا شخصية الكاتب-– سيعود الكاتب الآخر إلى حياته الرتيبة، وربما يرتمي في أحضان الطبيعة مع عائلته ليأخذ نفساً عميقاً بعد الانتهاء لمكافأة نفسه، بينما سيعود فرانز كافكا إلى بؤسه ومسخه ومعاناته واغترابه وانسلاخه عن المجتمع الذي كان فيه. وقد كانت الرواية انعكاساً للكاتب نفسه. ربما هذا ما أعطى الرواية حفنة كبيرة من المشاعر الصادقة التي جعلت منها واحدة من أهم روايات القرن العشرين، وأحدثت نقلة في عالم الأدب السوداوي، وما زالت تُدرّس حتى يومنا هذا.
هل نستحق غضب كافكا؟
هل استحق المجتمع كل هذا الجَلد من كافكا؟ ليس المهم الإجابة عن هذا السؤال، بقدر ما هو مهم أن نراجع علاقاتنا البشرية، ونُحدق بتمعّن إلى المسخ الذي بداخلنا. إلى الحروب العبثية التي لم تتوقف مُذ كتب كافكا أولى رواياته، 100 عام تقريباً من ميلاده، تتكرر المآسي، وتزداد الحروب شراهةً بصورة أفظع، لم يجد قبره السكينة أكثر من 15 عاماً وكان قد خرج لتوّه ناجياً من الحرب العالمية الأولى بعد أن وضعت أوزارها، إلى أن بدأت الحرب العالمية الثانية.
وانتهت الحرب بعد أن طحنت أوروبا، وكانت بالكاد تتعافى من حربها الأولى، وما زلنا نسميها اليوم "القارة العجوز" التي سحقت شبابها. لا أبحث عن الإجابات وعن الأسباب كشمولية هتلر وديكتاتوريته، ولا أريد أن أنبش في التاريخ، فما حصل قد حصل!
ووسط كل هذا نحن الآن -ربما- على أعتاب حرب جديدة في أوكرانيا، لتُضاف إلى قائمة مآسي الشرق الأوسط. علينا أن ننظر بعينٍ من الحكمة إلى العلاقات التي نبنيها مع بعضنا البعض وتجعل منّا بشراً، نحب، ونتسامح، ونتعاطف، ونتحامل، وربما نتعاتب، ونترفّع عن حقدنا. هذه المشاعر التي تعتبر موضع جدل في شخصية كافكا المضطربة وهي ما أنتجت منه شخصاً مجنوناً في الأدب، ولا أقصد الإهانة.. إنما الإبداع والطفرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.