أتذكر ميسي نفسه، أمام يوفنتوس الإيطالي في إياب ربع نهائي دوري الأبطال موسم 2016/2017، يُقدم مباراة عادية، يُسدد كُرة تبعد تماماً عن مرمى بوفون، الجماهير الحاضرة تتيقن بأن توديع المسابقة أصبح أمراً يُرفرف في سماء الملعب الذي شهد العودة التاريخية أمام باريس؛ ما كان منهم إلا أن يقفوا، لأكثر من دقيقة، يهتفون "ميسي، ميسي، ميسي".
بعدها بأيام، دخل برشلونة الكلاسيكو بنفس مكسورة، بهزيمة معنوية قبل حتى أن تكون فنية، أن يسقط قناعه أكثر من أي وقت مضى، وميسي ينهض من بين أنقاض الحسرات، في واحدة من أسوأ فترات برشلونة على مدار تاريخه، يعبث بالجميع، يُروض الجميع، يُسجل هدفين في أرض مدريد ويُقدم مباراة أقرب وصف لها "أنها من وحي الخيال".
هو نفسه لا يعلم لماذا يفعلون ذلك من أجله، وهُم أيضاً ينهضون دون سابق إنذار، دون أن يُدركوا حقيقة ما يُمكن جنيه وراء فعلتهم.
الأمر يبدو روتينياً بالنسبة لهذا الرجل، بالنسبة للجماهير التي عاصرت رجلاً، تعافى مع برشلونة من الألم، وعالجه أكثر في محنته مثلما فعلوا حينما كان صغيراً، التطبيق الحقيقي لمقولة: يا تُرى هل ترى؟ هي أشياء لا تُشترى.
هذه القصة لا تصلح إلا في السينما، أنت تعرفها، السيدة التي تسمع صرخات طفل صغير، في رداء الليل، لا أهل له، فتتبناه، لا تعرف من ولا لماذا، أنت تعرفها، هذه القصة عالجتها الدراما كثيراً.
فلما كبرت، ووهنت، رد هو الجميل، كان نعم الابن، يفعل ما لم يكن يفعله من قذفته أحشاؤها، نعم.. في لحظة ما قد يغضب، ويركل الطاولة، لكنه يأتي في رداء الليل معتذراً.
ميسي لبرشلونة!
ميسي هو لبرشلونة، يمكن أن يرتدي لوناً آخر، ويحتفل في ثناياه، ويحمل البهجة في جعبته آنذاك، لكنه أبداً أبداً، لا يليق بسواها، فأنت تعرف هذه القصة جيداً، عالجتها الدراما كثيراً، لكنها هنا تلامس الواقع.
من رحم الأرجنتين إلى أمومة برشلونة، هذا الصغير شاب الآن، وسيبقى هو الابن البار، مهما أتى غيره، أو اختار هو أن يغير واجهته.
أيقونة برشلونة، التي تدل على برشلونة، حينما يكون سعيداً يكون برشلونة سعيداً، حينما يكون حزيناً؛ يكون برشلونة حزيناً أيضاً.
أكثر من نصف هذا العمر قضاه في برشلونة، في مختلف الفئات العمرية، نصح رونالدينهو الإدارة بتصعيده، رأى فيه ما جعله يقول في إحدى المقابلات إن سحره لن يرحل معه، لأن لدى ميسي العصا خاصته.
رحل رونالدينهو، ترك ميسّي بمفرده، ثم وصل هنري وفابريجاس وفيا، ورحلوا، تلاهم نيمار، من بعده سواريز، كوتينهو وجريزمان، كل هؤلاء النجوم تتابعوا على برشلونة، منهم من أشرقت قدراته، منهم من صادف الغروب.
لم تضع جماهير برشلونة ثقل أحلامها إلا على عاتق ميسّي، أياً كانت حالة الفريق وأياً كانت الظروف، كل هذه السنوات، والأمر متروك لميسي، كان أليخاندرو مورينو يقول إن برشلونة بالنسبة له ميسي أو لا شيء آخر، وكلما كان لديك ميسي؛ كانت لديك فرصة.
من الأسئلة الوجودية التي لم تُطرح، رغم فجاجة وضوحها: لماذا يتقاضى لاعبو برشلونة كل هذه الرواتب، إذا كانوا لا يمتلكون حلولاً سوى التمرير لميسي؟
في الهجمات المرتدة ينتظرونه، في اللعب المفتوح ينتظرونه، ينتظرون أن يراوغ ويسجل، أو يراوغ ويمرر، وفي إحدى المرات قرأت أن ميسي، بهذه الصورة، يتحول إلى لاعب ممل، لا تتوقع منه جديداً، لذا تكثر الانتقادات حينما يخفق في التسجيل، أو الفوز، أو حتى في فعل ما يفعله عادةً، لأنه، بطريقة أو بأخرى، وضع نفسه في مكانة البطل الخارق، الذي لا بد أن ينقذ المدينة، كل مرة، وإذا فشل مرة، فأهلها لن يسامحوه أبداً.
أحد الساسة الكتلان غرد عبر حسابه في موقع التواصل الاجتماعي تويتر: "شكراً ميسي، لا يسعني إلا شكرك على كُل شيء، معك أصبحنا نُنافس العاصمة مدريد، أصبحنا نمتلك جوهرة لا تمتلكها العاصمة، هذا لم يحدث بالنسبة لنا من قبل".
الكاتب إدواردو جاليانو، من مونتيفيديو يشرح حبه لكرة القدم، لم يكن إدواردو من مُحبي برشلونة، لكنه عشق سحر ميسي، ولم يكُن أرجنتينياً بالأساس لكي يُتابع بشغف بوكا جونيورز، داخل علبة الشوكولاتة، لكنه كان شديد الولع بما يقدمه دييجو أرماندو مارادونا، وفي إحدى ندواته، أجاب إدواردو على سؤال: "لماذا تُحب دييجو وليو؟"
– أحب دييجو، لأن دييجو يُشعرك أن كُرة القدم لعبة سهلة، لكنها في حقيقة الأمر تبدو مُعقدة للغاية، أما أنا، أحب ليونيل ميسّي، فقط لأنه لا يشعر بأنه ليونيل ميسّي.
سننتظر برشلونة تلد ميسي آخر!
لذا، سننتظر أن تلد برشلونة ميسي آخر، ليس لدينا أية مشكلة على الإطلاق، وإن لم تفعل، سنظل بجوارها، فهذه الأشياء لا يمكنك التغلب عليها، في الوريد هي، لا يمكن أن تنزعها إلا بانقضاء السر الإلهي من الجسد، فالعلاقة ليست لاعباً، أو مباراة، بل هي استيقاظ عند الفجر خصيصاً لتتابع مباراة في أمريكا، حيث الفجر في بلدك هو وداعية الشمس هناك.
أن تضحي بمحاضرة في الكلية، من أجل أن تشاهد برشلونة يلعب في التاسعة صباحاً، هذه خيانة إن فعلتها، أن تدير ظهرك لها، بمجرد رحيل نجمك المفضل، لهي خيانة عظمى، فالذي يربطنا بكرة القدم، لا يمكن التغلب عليه، في الوريد هو.
أن تدخل في نقاش؛ من أجل هذا الشيء، وتدرك أنك ارتكبت حماقة، كان محركك الرئيسي بها حبك لهذا الشيء، أو تفكر أثناء الهزيمة فيما بعدها، كيف ستدافع عنه، هذه أشياء لا يمكن تخطيها بسهولة هكذا، أن تخلع عنك تفاصيل، احتاجت سنوات لتتزين، من أجل أن تخبر نفسك بأنك سئمت الوضع، وبحاجة إلى هواء نظيف.
ربما سألت نفسك ذات مرة: "لماذا أفعل هذه الحماقات من أجل هذا الشيء تحديداً؟".
– يمكنك أن تطلق وتتزوج من جديد، وأن ترتدي فكرة وتخلعها، تؤمن بشيء وتتجرد منه، لكن من المستحيل أن تغير فريقك، مهما كان الظرف قاسياً، فهذه الأشياء لا تتحكم بها، بل هي التي تتحكم بك.
واليوم يغيب برشلونة عن المنافسة، ويحضر ميسي، بدون جمهوره الذي كان يعتمد عليه اعتماداً كلياً كسلاح إضافي لمواجهة الخصوم، ولا زال ميسي يتعافى من برشلونة، ولا زال برشلونة أيضاً يتعافى من ميسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.