ما قبل البحث عن علا
منذ 12 عاماً كنت طفلة. ولم أكن أعرف حينها عن الحياة أكثر مما ينبغي لطفلة أن تعلمه، كنت أعرف مثلاً أن الشمس تطلع كل صباح، وأن هناك وقتاً مخصصاً للنوم كل ليلة، وربما ساعة للقيلولة في الظهيرة، أن الشتاء يعقبه الخريف يعقبه فصول أخرى، وأن مَن يدرس بجدية ينجح.
لم تكن لديّ أية فكرة في ذلك الوقت أني بعد سنوات -سأفكر لاحقاً أنها مرت كثوانٍ يمكنني أن أحصيها على أصابع يد واحدة- سأكون كونت معرفة مهولة عن هذا العالم. وأنني سأعرف أنه يمكن للشمس ألا تشرق أحياناً، كما يليق بأن يجري في النهار التالي لمعرفتك أن "بابا وماما سينفصلان".
وأنه ربما لم يعد هناك وقت محدد للنوم، وربما سيخفت النوم كله، سيطير، كما يليق بأن يحدث حين تنتقل من غرفتك إلى غرفة أخرى كنت تسكنها لأيام على سبيل الفسحة في بيت الجد. وأن هناك أياماً تبدو كخريفٍ أبدي، تساقط لا نهائي، وحيث في كل خطوة هناك فقد محتمل. ويمكن كذلك.. أن تبذل قصارى جهدك في أمر ما.. ولا تنله.
ولم تعرف عُلا كذلك -منذ 12 عاماً- حين كانت شابة صغيرة، قبل "البحث عن علا" لم تكن تعرف عن الحياة أكثر مما ينبغي لها أن تعرف، مثل أنه عليها أن تجد عريساً جيداً بما يكفي حتى يكون هناك إمكانية العيش معه لفترة من الزمن هي الباقي من العمر تحت سقف واحد، كي تتجنب أحاديث طنط حشرية والجيران وجيران الجيران الذين يسألونها بفضول قطط الشوارع التي لا شغلة لها ولا مشغلة سوى أن تلوم سِير الراحلين والعائدين.
"هنفرح بيكِ إمتى يا حبيبتي؟"
لا، لم تكن تعرف علا في ذلك الوقت، أنها حتى بعدما تتخلى عن أحلامها وأصدقائها ونفسها في سبيل تحقيق هذا الاستقرار، لن يكون ذلك كافياً كي تمنع الآخرين من سحب غطاء الأمان من تحت أرجلها في غمضة عين.
علا التي استيقظت في صباحٍ ما لتجد نفسها وحيدة في غرفة نوم تحملق في سقف حجرة ظنت أنها تعرفه جيداً لأنها تحملق به كل عشية وصباح، لتكتشف أنها لم تكن تعرف عنه أي شيء، مثلما لم تكن تعرف كذلك عن زوجها "هشام" أي شيء.
لذلك رحل هشام. لكنه.. مشكوراً ترك لها شقة من طابقين، وسيارة، ومصروفاً، وطفلين، وبواباً فضولياً.
وداع واعتياد
استيقظ هشام زوج علا ذات يوم، وهو -حسب ما ينبغي علينا أن نعرف- طبيب نفسي وابنٌ لناظلي هانم، ليقول لعلا إنه لا يستطيع إكمال حياته بهذه الطريقة، لأنه لا يشعر بالسعادة، ولأنه يظن.. وربما متأكد، ولكن على استحياء.. أن علا هي السبب في الأزمة القلبية التي شقت صدره في وقت سابق لكن قريب.
لتدخل علا في صدمة الفقد غير المبرَّر والذي لم يسبقه تمهيد أو وداع من نوع ما يليق بما كان هنا، كيف يمكن لحياة أن تنهدم دون أن تحدث دوياً صاخباً؟!
في زمن ما مضى كانت ستنتحب علا، وكانت ستبدأ في البحث عن طريقة لنقل خبر الفضيحة لأهلها: "بنتكم اتطلقت". حين كان الطلاق أسوأ سمعة من المشي البطال.. إن كان المشي البطال سراً وكان الطلاق معلناً. لكن لأن علا تعيش في عام 2021، وعملاً بالمقولة الإنجليزية الساخرة التي تنص على أنه modren problem requires modern solutions، فإنها ستبتلع حبتين من دواء الاكتئاب، وستنام في السرير في هدوء.
وبعد عدة أيام ستقرر أن تدعها من البكاء على اللبن المكسوب، وتتوقف عن التفكير في السبب وراء شعورها بأنها ليست كافية، وهو نوع من المشاعر الجديدة التي تليق فقط بالعصر، وستقرر العودة لأشياء كانت قد تركتها عنوة للحصول على الاستقرار فخسرت الاثنين معاً.
صادمة.. ولكنها حقائق
"البحث عن علا" المسلسل الذي تصدر التريند والذي هو من إنتاج شركة نتفليكس ومن تأليف غادة عبد العال وسيناريو وحوار غادة عبد العال بالاشتراك مع مها الوزير وإخراج هادي الباجوري، يناقش قضية طلاق علا التي ترقت في سلم الطبقات الاجتماعية بضع درجات وأصبحت تعيش بشكل أفضل، وهذا منطقي نظراً لوظيفة زوجها التي من المتعارف عليه أنها تدر مالاً جيداً. لكن ما بدا للجمهور ينتمي لعوالم الفانتازيا والخيال العلمي هو التسهيلات المادية التي قدمها الرجل لطليقته بكل ذوق.
أما عن الحقائق التي كشفها "البحث عن علا"، فنَعم. أبناء هذا العصر معتادون على التعافي بشكل أسرع، الرأسمالية تطحن الجميع. وحبوب الاكتئاب صارت بديلاً عن البكاء والانتحاب.. وحيث هنا في عوالم الكابتيالزم هناك أشياء أكثر أهمية بكثير من زوجك الذي طلقك، إنه مجرد طلاق على كل حال، شيء يحدث طوال الوقت.
وأن علا التي جرحت من رجل، لن تحاول تجنب الرجال، وستستجيب لمحاولات رجال آخرين للمساعدة، مثل الـcareer coach الذي سيمنحها الثقة الكافية لبدء مشروعها الخاص. والشاب الصغير الذي سيمنحها الإحساس بروحها وأنوثتها واستكشاف رغباتها المدفونة.
لماذا ستستجيب لمحاولات الرجال؟ لأنها أنثى. أنثى فقدت رجلاً كانت تظن أنه يمنحها شيئاً خاصاً، شيئاً لا تستطيع أن تعيش بدونه.
التربية الإيجابية
كما يركز مسلسل "البحث عن علا" بوضوح على علاقة الأبناء بالآباء، وتعلق الآباء بأبنائهم، ويعرض مجتمع مدارس المراهقات بصورة حقيقية من صلب الواقع وأصله، حيث المراهقات يمنحن النصائح للأمهات وليس العكس. وحيث هناك مصطلحات مثل "دراما" على الحزن. ونصائح لمامي بالاهتمام بنفسها ومحاولات لجعل الندم يعض قلب بابي، ليس لأنه ترك أمها وكسر قلبها، ولكن لأنه رجل في المطلق، ولأن النساء للنساء.
وربما تتضح هذه الرؤية بشكل قوي وصياغة مدهشة في الحلقة الخامسة من المسلسل حين تقرأ علا الرسالة على الأطفال، وإخبارها لابنتها بالذات أن عليها الكف عن محاولات حمايتها، لأنها الأم وليست هي. وحيث كذلك تتبدى علاقة الأم بالابنة على الطريقة الإيجابية بأن تنبهها بنظرة بأنه لا يجدر بها أن "تزودها أوي كده" مع زميلها الشاب.
البحث عن علا
ربما يرى البعض أن مسلسل "البحث عن علا" مصنوع أساساً كفكرة للتصدير لأنه لا يشبه الواقع الذي يعيشونه، لكن.. من جدد الواقع بإطارات محددة؟ فالواقع قماشة سرد واسعة جداً تتغير في كل ثانية بتغير ما تم تثبيته عليها من متغيرات، وحيث في كل خطوة هناك عدد لا نهائي من الاحتمالات. آخرون تعاملوا معه كتجربة مرحة وخفيفة، للشعور بمشاعر حلوة مؤقتة، تجربة لا يجب أن تؤخذ على محمل الجد والتحليل.
لكن بالتأكيد أنه رغم اختلاف الآراء يظل المسلسل جيداً بما يكفي ليحظى بالقدر الذي يستحقه من التأويل والتحليل. وربما نحن جميعاً لسنا مستعدين بما يكفي للوثوق في عمل فني والصديق بأنه مقتنص من الواقع، بسبب كثرة ما يشغل تفكيرنا سؤال كيف يبدو الواقع، وهل هناك واقع خارج ما نعيشه فعلاً؟
مثلما لم تكن علا مستعدة في نهاية البحث عن نفسها للتواصل مع إنسان آخر، حيث كانت مشغولة جداً بمحاولة فهم احتياجاتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.