يعيش الشرق الأوسط تغيرات متسارعة في ظل التطورات الجارية في الإقليم، بينما مُثلث القوة والنفوذ الإقليمي، إيران وإسرائيل وتركيا، تشكل اندفاعاتها للإمساك بالمساحة الأكبر من النفوذ في ساحات الصراع الكبرى. فطهران تسعى بهدوء لإتمام السيناريو الأفضل لعودتها إلى الاتفاق النووي مع واشنطن، وتسعى إلى امتلاك أوراق قوتها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، إضافة إلى غزة مع حركة حماس.
بالمقابل فإن الإسرائيليين يعززون اتفاقاتهم الأمنية والاقتصادية الجديدة في الخليج العربي والمغرب والسودان ويشاركون بطريقة غير مباشرة في صوغ المواقف الغربية المتعلقة بأمنها على طاولة المفاوضات في فيينا، وعلى وقع الهجمات الحوثية على الإمارات.
وتعمل إسرائيل على تعزيز حضورها من خلال مساندة نظام الدفاع الجوي لأبوظبي، لأن الرغبة الإسرائيلية باتت أبعد بكثير من دعم البحرين والإمارات، فيما واشنطن تسعى لدمج حلفائها في بوتقة عمل أمنية وعسكرية مشتركة، والمناورة البحرية متعددة الجنسيات والتي ضمّت دولاً عربية وإسلامية إضافة إلى إسرائيل، تعطي الانطباع بالعمل على بدء تركيز حلف ناتو جديد، طابعه شرق أوسطي، ستكون القوة الأبرز فيه إسرائيل، وستكون مهام هذا التحالف إحداث توازن مع إيران وحلفائها في الشرق الأوسط.
وبانتظار مآلات الملاكمة الأمريكية مع روسيا حول ملف أوكرانيا، تسعى واشنطن لترويج أخبار استخباراتية وتسريبها حول استعداد الجيش الروسي لغزو أوكرانيا وأن الحاجة لاجتياحها تحتاج إلى ثلاثة أيام وربما أقل، فيما تحاول موسكو طمأنة العالم في نفي هذه الشائعات واتهام الاستخبارات الأمريكية بترويج هذه الأخبار والتقديرات لحشد الناتو ودول العالم ضدها.
وفيما يحاول الأوروبيون تجنّب التصعيد المباشر مع موسكو، يحاول جو بايدن إظهار نفسه على أنه الأجدر والأقدر على تأمين الغاز لأوروبا وللعالم أجمع كبديل عن غاز روسيا والتي تستخدمه عند كل أزمة أداة ابتزاز مع دول الناتو، وإلى جانب هذه الجبهة التي من شأنها إعادة ترتيب قواعد النظام العالمي بما يختلف عن مرحلة ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما بعد انتهاء الثنائية القطبية. ثمة جبهة اقتصادية أخرى مفتوحة بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والصين من جهة أخرى.
تركيا تفرض نفسها على الساحة
بالتوازي فإن الأتراك ومعهم القطريون يردّدون أنهم جاهزون للعب دور الوسيط ليعمّ السلام بين روسيا وأوكرانيا، وهذا الموقف تزامن مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان متعددة الأهداف لكييف وهو ينتظر زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إسطنبول بعد انتهاء التحضيرات المشتركة بين الجانبين والتي ستؤمن لموسكو بعضاً من رغباتها الشبقة في العالم.
وتريد تركيا القول للأمريكيين والأوروبيين إنها الأساس في الإقليم لضمان أمنهم وحضورهم السياسي على أبواب أوروبا وآسيا، وإنّها قادرة بحكم علاقاتها المميّزة مع موسكو وكييف أن تسجّل اختراقاً سياسياً في الملفّ وربما قد يكون هذا الخرق شبه مستحيل في ظل التوترات الروسية التركية نتيجة ملفات حساسة في البلقان وكازاخستان وأذربيجان، إضافة إلى أن أنقرة أعلنت أخيراً التزامها بقرارات حلف الناتو وتوجهاته الاستراتيجية، كما زودت كييف بمسيراتها الدقيقة "بيرقدار وأكنجي"، الأمر الذي رفع منسوب التوتر بين الجانبين، ما يعني أن تركيا لن تكون قادرة على لعب الدور الحيادي والوقوف على مسافة واحدة من البلدين في الأزمة.
وفي مساحة الشرق الأوسط الملتهبة تسعى واشنطن من خلال هذه الأزمة الممتدة والتي قد تطول وتؤثر على أمن الطاقة في العالم، لحشد ثلاثي المنطقة خلفها لإنقاذ دول الناتو من الابتزاز الروسي، لذا فإن المبعوث الخاص لبايدن حول أمن الطاقة آموس هوكشتاين هو مؤسس نظرية جديدة تدعو لإيجاد البدائل عن الغاز الروسي للدول الأوروبية، وهو نفسه المعارض لتحالف شرق المتوسط "إيست ميد" والذي كان يفترض أن يمر من إسرائيل إلى قبرص واليونان فأوروبا، وهو غير جاهز حتى الآن وتبلغ كلفته مليارات الدولارات، بينما يفضل الرجل الغاز المسال الآتي من الخليج.
وهذا الرفض لوجود تحالف "إيست ميد" يخدم أنقرة ويعزز دورها في هذه المساحة، وخاصة أنها تعتبر نفسها بوابة الغرب إلى الشرق والعكس تماماً، والأتراك يقولون للولايات المتحدة ومعهم دول أوروبا إنهم الأكثر أهلية ليكونوا نقطة التلاقي الغازي، وخاصة أن أنابيب جرى إصلاحها وهي ممتدة إلى أوروبا.
ولا بد لهذا الطموح أن يتطابق مع الخلاف في المواقف الروسية والتركية حول الوضع في كييف، وهذا الأداء قد يؤدي إلى تعمق الخلافات وربما الافتراق، وهذا الأمر إن حصل فإن خسارة موسكو ستكون مضاعفة، وخاصة أن تركيا ستتحول إلى كبرى الدول المنافسة لروسيا في توريد الغاز إلى دول المنطقة والاتحاد الأوروبي، عبر أذربيجان، وأربيل من حقل جيهان ومع إسرائيل.
والأكثر وضوحاً أن الأتراك اختاروا في هذه المرحلة إعادة التموضع إلى جانب الولايات المتحدة وربط العلاقة مع إسرائيل والخليج، بعد شعورهم بأن موسكو تسعى لتغيير موازين القوى في أوروبا من خلال طلبها سحب جميع قوات الناتو من أوروبا الشرقية، إضافة إلى حصولها على ضمانات من الدول الإسكندنافية المجاورة، مثل فنلندا والسويد، بعدم الانضمام أبداً إلى حلف الناتو.
وهذا التقارب التركي من واشنطن ترجم مؤخراً بمساعدة المخابرات التركية بالتعاون مع بعض فصائل المعارضة السورية في إدلب في كشف مكان زعيم تنظيم داعش أبو إبراهيم القريشي، وهناك من يقول إن العملية جاءت بمثابة هدية ثمينة قدمها أردوغان للرئيس الأمريكي المتراجع شعبياً نتيجة الانقسام العامودي الذي خلفه ترامب في المجتمع الأمريكي وتلتها الانسحابات المتتالية من المنطقة وآخرها من أفغانستان.
وعليه لا بد من ملاحظة أمرين أساسيين، الأول: مراقبة الزيارة المرتقبة للرئيس الإسرائيلي إلى أنقرة ولقائه أردوغان، حيث سيكون هناك بحث في مجالات الطاقة، ذلك لا ينفصل أيضاً عن بروز توترات تركية إيرانية حول ملفات متعددة، من سوريا وطريقة المقاربة الفجة لطهران للملفات مؤخراً، والموقف التركي من العملية السياسية الجديدة في العراق بين الصدر والتحالف السني والذي تدعمه تركيا في إطار رفضها لبقاء الميليشيات، يضاف لخشية إيرانية من تطور علاقات تركيا مع السعودية والإمارات.
التقارب الدراماتيكي مع السعودية
ثانياً: هناك تطور دراماتيكي في العلاقة التركية السعودية، وهذا التطور اللافت كانت الدوائر المشتركة تعيد تشكيله بعيداً عن الضوء منذ نهاية العام 2020 واستمر تصاعدياً حتى بلغ مراحل متقدمة في العلاقة المشتركة وستترجم بزيارة الرئيس التركي إلى الرياض وأبوظبي.
وقبيل الزيارة جرى رفع الحظر غير الرسمي عن البضائع التركية في السعودية حتى إن الإعلام السعودي خفف اندفاعاته الهجومية على أنقرة، فيما اللقاءات غير المعلنة كانت تعقد وآخرها ما حكي عن لقاءات جمعت نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان مع رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان في العقبة تارة وفي الدوحة تارة أخرى.
إضافة إلى أن التعاون العسكري بين الأتراك والسعوديين بلغ أشده عبر شراء السعوديين درة التاج التركية "بيرقدار وأكنجي" المسيرة، والتي تدك معاقل حزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش في العراق وسوريا والتي أذاقت حزب الله والنظام السوري الويلات خلال محاولة اجتياح إدلب، وهذه المسيرات التي تتميز بنشاطها الفائق في الجبال ستكون في متناول الرياض في حربها الدائرة مع الحوثيين، وفي المعلومات أن الفريق المحيط بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعد أوراقاً وأبحاثاً متقدمة حول ما يمكن أن تقدمه أنقرة للرياض وأبوظبي في ردع الهجوم المستمر على أراضيهما من قبل الحوثيين.
لكن هذا الأداء لا يعني أن الأبواب موصدة بين الرياض وطهران لا بل إن السعوديين يعبرون عن شعورهم بالراحة من سير المفاوضات مع الإيرانيين على الرغم من عدم ترجمتها في السياسة والأمن حتى اللحظة بين الجانبين، ويجري إيجاد صيغ للتفاهم بين الجانبين، ويقال إن الإيرانيين في لقائهم الأخير مع مسؤولين سعوديين قدموا عروضاً للحل في اليمن تليها حلول لملفات سوريا والعراق ويجري تدارسها.. فلننتظر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.