تتسارع المؤشرات بشكل مطرد لتعزز الصراع بين روسيا والدول الغربية في مالي، وذلك على الشاكلة نفسها التي تجري في أوكرانيا.
فيبدو أن العزلة التي يوجد عليها قادة الانقلاب في مالي، والحصار الذي تعرضوا له من قِبَل فرنسا والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن المواقف الصارمة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، لم تُبقِ لهم خيارات كثيرة. وقد انضم المغرب إلى قائمة الدول التي رفضت الاعتراف بشرعية الانقلاب.
العلاقات الفرنسية المالية، منذ الانقلاب العسكري في أغسطس/آب 2020 الذي أطاح بحكم الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا، ثم الانقلاب الثاني على قادة المرحلة الانتقالية في مايو/أيار العام الماضي، تسير من سيئ إلى أسوأ، فقد مارست باريس كل الضغوط على قادة الانقلاب للعودة إلى الشرعية الدستورية، وإجراء انتخابات لتشكيل حكومة مدنية، لكن الانقلابيين رفضوا الخضوع للضغوط الفرنسية والأوروبية وحتى الإفريقية.
قادة الانقلاب vs الضغط الفرنسي
كما قاوم قادة الانقلاب أوراقاً أخرى استعملتها باريس عندما لوحت بخفض وجودها العسكري في مالي، وهددت بالانسحاب من مالي، وسحب قواتها إلى جانب القوات الخاصة الأوروبية العاملة ضمن عملية "تاكوبا"، بل وسحب حتى الجنود الأوروبيين ضمن البعثة الأممية "مينوسما"، وأن وجودها لن يبقى هناك تحت أي ظرف، وقام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالفعل بتقليص عناصر عملية برخان البالغ عددهم 5100 إلى النصف، وشرع في الانسحاب من مدن كيدال وتيساليت وتومبكتو.
لكن يبدو أن قادة الانقلاب في مالي يتجهون إلى ذات الخيار الذي اتجهت إليه إفريقيا الوسطى حينما نابذت النفوذ الفرنسي العداء، واتجهت صوب روسيا، ولا يريدون بأي نحو من الأنحاء جعل ابتعادهم عن السلطة ثمناً لأي تفاوض مع فرنسا.
ما يعزز هذا التحليل أن العلاقات الفرنسية- المالية استمرت في التوتر والتصعيد، وتحولت إلى أزمة دبلوماسية بعد أن استدعت سلطات مالي السفير الفرنسي بباماكو جويل ماير للاحتجاج على تصريحات مسؤولين فرنسيين، وصفتها بأنها عدائية، ثم أمهلته 72 ساعة لمغادرة البلاد.
فرنسا، حاولت بدورها بكل الطرق أن تنقل الخلاف مع مالي إلى خلاف إفريقي- أوروبي، بل إلى خلاف مع مجلس الأمن، وذلك حين اتهمت مالي باستقدام عناصر من الفاغنر الروسية لتحل محل الوجود العسكري والأمني الفرنسي، مؤكدة وجود 400 عنصر من هؤلاء المرتزقة في مالي، فاستعانت بحلفائها في إفريقيا، وأوروبا، وبالولايات المتحدة الأمريكية، للحفاظ على مصالحها ونفوذها بالمنطقة، وفي الوقت ذاته، منع أي سيناريو لملء الروس للفراغ الذي سيحدثه خروجها من المنطقة.
وقد انعكس هذا الصراع في التحركات الدبلوماسية التي جرت على مستوى مجلس الأمن، إذ تقدمت فرنسا بمشروع قرار لإقرار العقوبات القاسية التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا ضد مالي، وحشدت كل حلفائها في هذا السبيل، لكن التوافق الروسي والصيني أفشل تحركات فرنسا وحلفائها، ودعم أطروحة قادة الانقلاب بتمديد الفترة الانتقالية إلى خمس سنوات، بدل إجراء انتخابات في أقرب مدى لإعادة الشرعية الدستورية لمالي، كما هو مطلب فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ودول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا.
الغرب يتخوف من التطورات التي تجري في إفريقيا، ومن حصول ميل غير متوقع من بعض الدول الإفريقية نحو روسيا، فهو لا يتردد في إعلان رفضه للانقلابات العسكرية التي تخل بتوازن المصالح الموجودة في هذه الدول، وينظر إلى الانقلابات التي تجري في إفريقيا على أساس أنها تطورات مقلقة، ينبغي محاصرتها، قبل أن يلجأ قادة الانقلاب إلى الورقة الروسية لمواجهة الضغوط الغربية، فقد عرفت إفريقيا في أقل من خمسة أشهر انقلابَين، الأول في غينيا (سبتمبر/أيلول 2021)، والثاني في بوركينا فاسو (يناير/كانون الثاني 2022)، وثمة قلق إفريقي عارم من تسارع موجة الانقلابات في القارة وتهديد الأمن والاستقرار بها.
من فرنسا إلى أوروبا
الضغط على الانقلابيين في مالي بدأ فرنسيّاً، ثم بإجراءات عقابية إفريقية، إذ قرر قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في اجتماع أكرا، إغلاق الحدود مع مالي، وفرض حصار على البلاد، وتبنّي حزمة إجراءات عقابية اقتصادية ودبلوماسية قاسية ضد مالي بسبب نية المجلس العسكري البقاء في السلطة لعدة سنوات أخرى (تعليق التجارة باستثناء السلع الأساسية، وقطع المساعدات المالية، وتجميد أصول مالي في البنك المركزي لدول غرب إفريقيا).
ثم تحول بعد ذلك إلى ضغط أوروبي، إذ فرض الاتحاد الأوروبي خلال اجتماع وزراء خارجية دوله الأعضاء في 24 يناير الماضي بروكسل، عقوبات على خمسة مسؤولين في مالي، بينهم رئيس الوزراء الانتقالي تشوغويل كوكالا مايغا، وذلك على خلفية اتهامهم بإعاقة الانتقال السياسي في هذا البلد، قضت بتجميد أصولهم، ومنعهم من دخول أراضي الاتحاد الأوروبي، ومنع أي فرد أو كيان داخل الاتحاد الأوروبي من وضع أموال في تصرف المسؤولين المذكورين، ويتوقع في اجتماع السابع عشر والثامن عشر من فبراير/شباط، أي خلال اجتماع قمة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، أن يزيد الضغط عند مناقشة موقف الاتحاد الأوروبي من الالتزام الأوروبي في مالي.
فرنسا إذاً نجحت في أن تنقل الصراع من صراع مالي فرنسي، إلى صراع مالي مع دول المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، ومع دول الاتحاد الأوروبي وأيضاً مع واشنطن، وتدرك الثقل الاستراتيجي الغربي الموضوع في المنطقة، بسبب مخاطر التحديات الأمنية والإرهابية القادمة من دول الساحل جنوب الصحراء، وتعتقد أن نقطة ارتكاز التفكير الاستراتيجي الغربي في المنطقة يقوم على تحصين المكتسبات والمصالح الغربية مع الحفاظ على الاستقرار بدعم حكومة مدنية منتخبة في مالي.
المغرب والجزائر وانقلاب مالي
كما تدرك فرنسا -في رأيي- أن المغرب منخرط في هذه الرؤية، وأن الجزائر لا يمكن لها أن تخرج عن هذا الإطار، ولذلك، فهي تسعى بكل ما أوتيت من تحركات دبلوماسية إلى أن تقنع بأن وجود الفاغنر في روسيا هو مقدمة لإعادة حالة أوكرانيا إفريقيّاً، وأن ذلك سيربك بشكل كامل النفوذ الغربي في القارة لا سيما أنها تراقب التطورات المتسارعة التي تهدد الأمن والاستقرار بها (موجة الانقلابات).
في حين تسعى روسيا إلى استثمار إصرار الانقلابيين على تمديد مدة الحكم الانتقالي، وتستغل نفوذها في الجزائر، من أجل دفعها إلى القيام بوساطة تمكنها من إعادة نفوذها في دول غرب إفريقيا، بما يخفف الضغط على مالي، ويمكّن روسيا من توسيع نفوذها هناك.
الجزائر كانت ضمن الدول التي رفضت الانقلاب، لكنها، لم تتردد عشية اتهام سلطات مالي باستقدام مرتزقة الفاغنر الروسية في القيام بوساطة، لتقريب وجهات النظر، فقد قام المبعوث الجزائري الخاص على منطقة الساحل، دلمي بوجمعة، بزيارة إلى مالي للقاء رئيس السلطة الانتقالية، العقيد أسيمي غيوتا، حاملاً معه أفكاراً جديدة، تقترح تقليص مدة الحكم الانتقالي إلى 16 شهراً بدل خمس سنوات، وهي مدة تتجاوز المقترح الفرنسي والأوروبي والإفريقي، وتقل بكثير عن مقترح السلطات الانتقالية، وتتجاوب مع الأهداف الروسية التي تسعى إلى كسب مزيد من الوقت للتمكين لنفوذها في المنطقة، وتخفيف الضغط على سلطات مالي الانتقالية.
السلطات الانتقالية في مالي لا تريد التنازل عن موقفها، وتريد أن تجعل من مدة حكمها مادة أساسية في التفاوض، لكسر الحصار عنها، ورفع العقوبات أو تقليصها، وتقوية أوراق اعتمادها في التفاوض مع الغرب، لكن فرنسا مع الاتحاد الأوروبي وواشنطن، تسير في اتجاه مزيد من الضغط حتى لا تتحول مالي إلى أوكرانيا جديدة ويتسع النفوذ الروسي في القارة الإفريقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.