خلال قراءتي لأي مفكر أو فيلسوف لا أحب فقط أن أعرف ماذا يقول، وإنما أيضاً كيف يقول؟ كيف يفكر أو يتفلسف؟ ولذا تجدني مغرماً في كل قراءة بالبحث عن نقطة الانطلاق، أي عن الفكرة الرئيسية التي انطلق منها في عمله، وكيف توصَّل إليها؟ وكيف بنى عليها؟
وهذا ما فعلته مع كتاب "المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري"(1975) لزكي نجيب محمود، وكان -كما نعرف- أحد المتخصصين في فلسفة برتراند راسل، وأحد أهم مترجميه إلى العربية أيضاً. ولهذا تحديداً تجد أن راسل حاضرٌ بشكل شبه دائم في كتابات زكي نجيب محمود. وهو ينطلق في هذا الكتاب تحديداً من دراسة معروفة لبرتراند راسل بعنوان "التصوف والمنطق" (1914)، وهي كما يقول زكي نجيب محمود نفسه "من أجود ما كتب برتراند راسل في حياته الفلسفية".
وقد عرض زكي نجيب محمود لدراسة راسل بإفاضة في ثلاثة من فصول كتابه (من فصل 60 إلى فصل 62). وصرح في بداية ذلك بأن تفرقة راسل بين المنطق والتصوف "هي نفسها التفرقة بين المعقول واللامعقول في سياق حديثنا".
ويميِّز راسل بين "التصوف" و"المنطق" بدور "الإدراك" فيهما. ففي المنطق يكون الإدراك على مراحل وخطوات؛ حيث نخطو حتماً من "المقدمات" إلى "النتائج" باستخدام "التحليل العقلاني". وهذا الطريق كما قال هو طريق العلم نفسه. أما في التصوف فالإدراك بمثابة "لمعة بارقة" دون مقدمات أو شواهد، وبغير خطو في أي اتجاه، وبغير تحليل أيضاً؛ فالمتصوفة تبعاً لراسل يرفضون كل ضروب التحليل؛ لأنه يمزِّق كيان الحقيقة فيُفسِدها.
وهذه التفرقة التي اجترحها راسل بين المنطق والتصوف لا تمثل فقط نقطة الانطلاق لكتاب "المعقول واللامعقول"، بل تمثل الإطار الشامل له؛ فهي كما قال زكي نجيب محمود التي فتحت له أفقاً فسيحاً لرؤية تراثنا الفكري، وأنه مزيج من المعقول واللامعقول. ثم حدد هدفه فقال: إن الأدنى إلى الصواب أن نراجع (نحن الخلف) ما وصلنا من هذا التراث لندمج منه في حياتنا المعاصرة ما يُمكِن أن يتَّسق معها.
وبعد أن حدد الهدف حدد وسيلة تنفيذه أيضاً فقال: إن لهذه المراجعة وسيلة واحدة هي "العقل". فعن طريقه وحده نستطيع أن نفرِّق بين "المعقول" و"اللامعقول" في هذا التراث؛ لنكون على بيِّنة بحدود هذا وحدود ذاك: "فما ساير العقل من (مأثورات السلف) أخذناه؛ لأنه وحده يصلح لربط الحاضر بالماضي، وما لم يُسايره جعلناه موضوعاً للتذوق والتسلية الأدبية".
بالطبع زكي نجيب محمود لا يقول مَن بالضبط الذي يقوم بالمهمة من بين الخلف، ولكنني أفهم أنه يقصد "أصحاب العقل" أي الفلاسفة والمفكرين. وفي الكتاب يقدم مساهمته في هذا السياق؛ فهو يرتحل فيه مثل سائح عَجِل بين جنبات هذا التراث وعبر عصوره ليرى ويسمع ويتعقل ثم يعود لنا بما يرى أنه يناسبنا من هذا التراث!
وقد قسم الكتاب كما هو متوقع إلى قسمين: خصص الأول منهما لما رآه معقولاً من هذا التراث، وجعل الثاني لما رآه مجافياً لعقله. وقد تعمد كما قال أن يجيء القسم الأول أكبر القسمين؛ لتكون النسبة بين الحجمين دالة بذاتها على النسبة التي رآها واقعة فيما وقف عليه من حياة السلف الفعلية.
وإذا نظرنا في القسم الأول الخاص بالمعقول سنفاجأ أنه مؤطر بدوره، ولكن بتفسير الإمام الغزالي للآية 35 من سورة النور: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ..".
وتبعًا لتفسير الغزالي لتلك الآية يدل "النور" هنا على درجات الإدراك أو مراحله، وهي خمس: مرحلة المشكاة، ومرحلة المصباح، ومرحلة الزجاجة، ومرحلة الكوكب الدري، ومرحلة الشجرة المباركة. وهذه المراحل تتصاعد وتزداد كشفاً ونفاذاً، تجاه الحق المطلق، وهو الله سبحانه وتعالى.
وقد قيد زكي نجيب محمود نفسه بهذا التفسير أيضاً وسحبه على القرون الإسلامية الأولى باحثاً عن "العقل" في هذه القرون ومتتبعاً لمساره.
أما القرن الهجري الأول ومثاله (المشكاة) فقد اتسم حسب ظنه بعفوية النظر، فكان التفكير العقليُّ فيه أقرب إلى إدراك البديهة الحاضرة والسليقة السليمة. وكان السؤال المحوري لهذه المرحلة هو: مَن ذا يكون أحقّ بالحكم؟ واستشهد بمعركتي "صفين" و"الجمل" والجدالات التي صاحبتهما حول موضوع الحكم، وهنا يعرض لدور الخوارج، ويتمثل كثيراً بأقوال الإمام عليّ (رضي الله عنه) التي يستقيها من "نهج البلاغة".
وهنا يلاحظ أن أغلب اعتماده على المصادر الشيعية عن هذا العصر. وقد استنتج بناء على هذا أن القدرات الخطابية واللغوية لشخصيات هذا القرن كانت مقياساً للنبوغ. وبناء على هذا الاستنتاج يطلق حكمه على هذا القرن فيقول: "أما وقد تبدل العصر غير العصر، وتغيَّر المعيار حتى أصبح النابغ يقاس بالقدرة على الصياغة الرياضية للقوانين العلمية، فلم يعُد ذلك الجانب من تراثنا مطلوباً لحياتنا، دون أن يحد ذلك مقدار شعرة من قيمته الفنية الأثرية".
أما القرن الثاني ويمثله "المصباح" فقد شهد بدء عمليات التنظيم والتقسيم وتأصيلَ القواعد والاستدلال منها. وهنا يعرض لموقف الفرق المختلفة كالمعتزلة والخوارج والمرجئة من مرتكب الكبيرة في حروب القرن الأول، وهل يخلد في النار أم يدخل الجنة أم سيكون في منزلة بين المنزلتين.
وهنا يقف طويلاً عند الحياة العقلية في "البصرة" ويقارن بينها وبين "الكوفة"؛ فيرى أن الكوفة كانت تعتمد على الرواية المنقولة بلا تحليل ولا تشكُّك؛ فهي أقرب لأصحاب "العاطفة والخيال". أما البصرة فكانت موطنَ "العقل" الذي يحاول ألا ينثني مع عاطفة أو تزمت أو عصبية، وأن ينقد ما ينقل إليه فيُميز صحيحه مِن باطله؛ فهي في اعتصامها بالعقل لا تقل عن أثينا القديمة ولا عن باريس الموسوعيِّين.
أما في القرن الثالث فينتقل إلى "بغداد" حيث أصبح "المصباح" أشد توهجاً ولمعاناً. وهنا يقف طويلاً أمام "بيت الحكمة" ودور المترجمين فيه، خاصة حنين بن إسحاق، ويقول عنه إن رجلاً واحداً فيه الإخلاص للعلم، ولديه المقدرة على تحصيله أو على نقله، قد يكون نقطة تحول ثقافي لأمة بأسرها. ومعنى ذلك أن "مرحلة المصباح" استمرت لقرنين أصبح الفكر فيهما تقعيداً للقواعد ووضعاً للأحكام العامة، وذلك كما يقول هو صميم المنهج العلمي، "فالعلم بمنهجه لا بموضوعه".
وفي القرن الرابع كانت "مرحلة الزجاجة" وفيه انتقل التفكير العقلي من المقدمات المباشرة إلى مقدمات أعم وأشمل، ويشرح ذلك بأنه مستوى التفكير المتميز بلون فلسفي كما لدى إخوان الصفا وأبي حيان التوحيدي وعبد القاهر الجرجاني، وابن جنّي. وبعد عرض متميز لنتاجهم يرى، وهذا مما لا شك فيه، أن تجاربهم وأفكارهم من أنفس ما يمكن أن ننقله إلى عصرنا ليكون جزءاً حيّاً من حياتنا الفكرية المعاصرة.
أما في مرحلة "الكوكب الدري" وهي المرحلة الرابعة فيقف فيها أمام اختلاف المعتزلة وأهل السنة حول "صفات الله". ورغم دقة شرحه إلا أنك تشعر بأنه يميل إلى آراء "المعتزلة" في الصفات والقدر وإلى "المرجئة" في شأن أصحاب الكبائر. ولكنه لا يفعل هذا بشكل مذهبي.
ثم يصل إلى مرحلة "الشجرة المباركة"، التي "يَكاد زيتُها يُضيء ولو لم تَمسَسْه نَار"؛ فالإدراك هنا يستمد شعلته كما يقول زكي نجيب محمود من نبعٍ باطني ذاتي، يكفي صاحب الإدراك فيه أن يخلص النظر إلى قلبه فإذا هو مهتدٍ إلى الحق. وتلك نظرة المتصوفة.
وهو يخصص هذه المرحلة كلها للإمام الغزالي وحده. ورغم إجلاله للغزالي فإن موقفه منه سلبي جداً. وهو يتأسف لأن الغزالي بعد أن أقام منهجاً عقليّاً يضعه بين أصحاب النظر العقلي، لم يُرد أو لم يستطع تطبيقه في أي كتاب من كتبه. وسبب ذلك في رأيه أن الإيمان كان يقبع خلف "عقل" الغزالي يوجهه، "فإذا جاءه العقل بما لا يصدم هذا الإيمان فبها، وإلا فليتنكر للعقل وما جاء به تنكراً يُبديه بالفعل وإن لم يذكره بالقول الصريح".
ويخص كتاب "إحياء علوم الدين" بهجومه فيقول إنه يرسم للمسلم حياته بالمسطرة، فيحدد له كل صغيرة وكبيرة؛ فيُوصد أمامه بالتالي أبواب التلقائية الحرة. لقد كفاهم عناء التفكير، ولم يُبقِ لهم إلا اقتفاء الأثر فكأنه صبهم في قوالب من حديد. وكانت النتيجة أن الغزالي في رأيه أصبح بمثابة قوة رجعية ألقت بظلها على تاريخنا الفكري في العصور التالية له، وأنه أغلق باب الفكر والفلسفة أمام العقل العربي فلم يُفتَح ثانيةً إلا بعد ثمانية قرون، عندما فتحت للمسلمين أبواب حضارة جديدة، هي حضارة أوروبا الحديثة.
ومعنى هذا أن المؤلف الذي قيد بحثه بتصورات مسبقة ومسميات محددة مما كان له نتائجه السيئة على الكتاب ككل، قد وصم ثمانية قرون لا يكاد يعرف عنها شيئاً بأنها قرون للركود والجمود الفكري!
وبهذه الرؤية المبتسرة كتب القسم الثاني لكتابه الذي خصصه كما قال لشطحات السلف "اللاعقلية". وهنا يرى أن في تراثنا القديم شطر كبير يختص بالسحر والتنجيم والتصوف الحلولي كأنه أمر يخص هذا التراث وحده ولا يوجد في تراث "حضارة أوربا الحديثة"!
ويتمثل لرأيه هذا، أو رأي برتراند راسل على وجه الدقة، بنماذج تصيدها كما قال هو من "رسائل إخوان الصفا" ومن مؤلفات نجم الدين كبرى والسهروردي والقشيري والحكيم الترمذي والغزالي بالطبع. وخلاصة رأيه أن القول بالولاية يعطل قوانين الطبيعة، وأن العلم لا يكون إلا عن طريق الوعي، ولكن المتصوفة يريدونه عن طريق اللاوعي وهذا غير صحيح على إطلاقه.
ونختم عرضنا النقدي هذا فنقول إن من الأفكار التي وردت عرضاً داخل الكتاب لا في خاتمته قول زكي نجيب محمود بأن المراحل التي تناولها في الكتاب تمثل "دورة حضارية" قد تتكرر على هذا النحو مرة بعد أخرى، وأنه يتم ختم كل دورة حضارية بمرحلة تصوف يريد أن يختصر الطريق إلى الحق بشهود مباشر فيغلق طريق العقل لفترة قد تطول قبل أن تبدأ الدورة الحضارية الجديدة.
والخلاصة أن الكتاب على أهميته حافل بالسقطات خاصة فيما يتعلق بالقرن الهجري الأول وبالغزالي رحمه الله. وقد سقط في هذه الجزئية تحديداً ضحية لنظرة استشراقية قاصرة سادت في أوائل القرن العشرين ويحاول الاستشراق نفسه التخلص منها بالتعمق في دراسة الغزالي والقرون التالية له دون وصفها بالجمود والركود، وهذا بالطبع ما لم يتوفر لزكي نجيب محمود، ومن هنا تسرعه في بعض أحكامه وجرأته فيها أيضاً.
وفي هذا تحديداً تتمثل إحدى مشاكل زكي نجيب محمود في كتابه هذا؛ فالرجل يأتي لهذا التراث من خارج تقاليده وتخصصاته، ومع ذلك يجعل نفسه حكماً ومقياساً يقول ماذا نأخذ وماذا ندع. ولذا يرفض أشياء ويقبل أخرى دون أن يكون ملماً بتطور أي منها. وقد زاد الطين بلة عندما ألزام نفسه بأوصاف وأحكام مسبقة مما ضيق عليه سبل البحث وعاق تعمقه وأضر بالكتاب رغم أهميته كما سبق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.