"أميتوا الباطل بالسكوت عنه" عبارة أصبح بعض الناس يستخدمها كثيراً في الآونة الأخيرة كلما رأى شخصاً ينكر منكراً، وغالباً ما تكون نية الشخص الذي يستخدم هذه العبارة هي الخوف من اشتهار هذا المنكر بين الناس إذا تنبهوا له.
واستخدام هذه العبارة قد يكون معقولاً إذا كان صاحب المنكر مغموراً غير معروف، فليس من المنطقي أن ننتقده على الملأ فنكون نحن جسره إلى الشهرة التي يطلبها ويبتغيها، أو تكون طريقة لفتح عيون الناس على ما لا يعرفون من منكرات فيندفعوا إليها بسبب الفضول أو من باب أن الممنوع مرغوب، هذا المنطق معقول نوعاً ما وفي نطاق محدد، وهو عدم اشتهار هذا المنكر، أو الشخص الذي يروج له أو يرتكبه.
لكننا نجد أن البعض يتوسع جداً في استخدام هذه العبارة، حتى أصبحت سيفاً مسلطاً في وجه كل من ينكر منكراً أو ينتقد مجرماً، حتى إنها قد تصبح عائقاً -في وجهة نظري- عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين ميّزا أمة الإسلام عن غيرها عندما قال الله تعالى في الآية 110، من سورة آل عمران: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه".
وأرى هنا أن هذه المقولة (أميتوا الباطل بالسكوت عنه) وإن كان يصح استخدامها في النطاق الضيق الذي أشرت إليه فيما سلف، فإننا لا نستطيع التوسع فيها لعدة أسباب.
السبب الأول: أن نسبة هذه المقولة إلى سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وأرضاه، لا تصح، ولو أنك قمت ببحث بسيط في هذا الأمر ستجد أن أهل العلم نفوا هذه النسبة بطريقة علمية واضحة ولا لبس فيها، لذلك فنحن نتعامل هنا مع مقولة لا نستطيع أن نعاملها في أحسن الأحوال كحكمة تراثية نستطيع أن نأخذ منها ما يناسب وقتنا وحالنا، ولا نتعامل مع نص ديني مقدس يتوجب علينا اتباعه بلا اجتهاد.
السبب الثاني: أن هذه العبارة تتنافى مع منهج القرآن الكريم الذي ذكر العقائد الفاسدة وفندها وقضى عليها، وكذلك كان منهج السنة النبوية الشريفة والأحاديث المطهرة، التي ذكرت الكثير من الآراء الباطلة والرد عليها، دون أن نفهم منها أن نسكت عن الباطل حتى يموت.
كما أن المتتبع لتاريخ التأليف الإسلامي سيجد الكثير من الكتب التي ذكرت الأديان الباطلة والعقائد والآراء الفاسدة بالتفصيل والإطناب، ثم تناولت الرد عليها، وتفنيد أسانيدها بالحجة والمنطق الواضح، وإذا أردت أن ترى مثالاً على هذه النماذج، فعليك أن تفتح الآن هاتفك، وتدخل إلى الإنترنت، وتتصفح فهرس كتاب الملل والنحل لأبي الفتح الشهرستاني، الذي تكلم فيه -دون أن ينكر عليه أحد- عن الأديان السماوية والوثنية والمذاهب والمعتقدات بشتى أنواعها.
وإذا أردت تفصيلاً أكثر فعليك بكتاب "الفصل في الملل والأهواء والنحل" للإمام أحمد بن حزم الظاهري، وستجد أيضاً ذكراً لجانب كبير من الأديان والفرق في الكتاب المشهور للإمام ابن الجوزي "تلبيس إبليس".
كل هذا التراث العظيم، ولم يتصدَّ أحدٌ من الناس لهؤلاء الأئمة قائلاً لهم: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"، مع العلم أن الكثير من الفرق التي تكلم عنها هؤلاء الأئمة الأفاضل قد ماتت بالفعل.
السبب الثالث: أن عبارة "أميتوا الباطل بالسكوت عنه" تعتبر من قبيل دفن الرأس في التراب، فأي باطل هذا الذي يموت هكذا وحده؟ فبدلاً من أن نأمر الناس قائلين لهم أميتوا الباطل بمقاومته، نقول لهم تغافلوا عن الباطل وتظاهروا بعدم ملاحظته، هل هذا منطق؟ هل يتفق هذا ومنطق الإسلام في وأد الفتن في مهدها، وعدم السماح لها بالاستفحال والسيطرة على أذهان الناس؟
وأي خدمة تلك التي نقدمها للباطل عندما ينسحب أهل الحق، ويتركون له الساحة ليملأها هو بصوته القبيح؟ الذي أصبح أكثر ارتفاعاً بسكوت أهل الحق الذين ينتظروا أن يموت الباطل بمجرد سكوتهم.
الباطل الآن أصبح ينتشر ويستفحل بضغطة زر، لذلك فآخر ما تحتاجه نصرة الحق الآن هو السكوت أو حتى الصوت الخفيض المتواني، الباطل يحتاج منا أن نجابهه بصوت واثق في نفسه مستند إلى العلم متسلح بالعقيدة والدين المتين، ولا يحتاج إلى الجبناء دعاة السلبية والسكوت.
لذلك أقول أميتوا الباطل بمقاومته وإسكاته وإياكم أن تسكتوا عنه!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.