لا يمكن حتى اللحظة فهم طبيعة العلاقة التي تجمع قوتين إقليميتين بحجم تركيا وإيران، كلا الطرفين يخوض حربه للبقاء كقوة ذات حضور أساسي في هذا الإقليم، وكل محاولات التلاقي التي جرت بين الجانبين كانت تتبخر عند أول مفترق طرق يجمع الجانبين في ميدان السياسة والعسكر.
نقاط الالتقاء والاختلاف
وهذا بعيداً عن التلاقي الحاصل في مكامن رئيسية، بدت ببعدها الشكلي منذ وصول قيادة إيرانية جديدة برئاسة إبراهيم رئيسي، وسياسة أمريكية جديدة لإدارة جو بايدن، مروراً بالتطورات الجيوسياسية في جنوب القوقاز، وانطلاق مباحثات فيينا بخصوص البرنامج النووي الإيراني، بالإضافة إلى ما يبدو أنه إعادة تقييم تركيا علاقاتها الإقليمية، في ظل تحسن علاقاتها مع الإمارات العربية ومصر وإسرائيل، معطوفة على المصالح التركية والإيرانية في مجالات الطاقة والتجارة، في ظل اعتماد أنقرة على النفط والغاز الإيراني. بالمقابل، تعتمد طهران على الواردات من البضائع التركية.
ويضاف هذا إلى قضايا إقليمية وجيوسياسية تجمع البلدين، كمعارضتهما الطموحات الانفصالية الكردية التي تهدد وحدة أراضيهما، وهذه المعارضة المشتركة ترجمتها طهران وأنقرة سياسياً وميدانياً للحيلولة دون انفصال كردستان العراق.
لكن هذا التلاقي ليس تلاقياً حقيقياً، فثمة قضايا جوهرية خلافية بين أنقرة وطهران، حيث تظل تركيا حليفاً استراتيجياً مهماً للولايات المتحدة، العدو الأساسي لإيران، وعضواً فاعلاً في "الناتو" رغم أن أنقرة اتخذت مؤخراً موقفاً متحدياً للولايات المتحدة في العديد من القضايا، بما في ذلك شراء أنظمة دفاع جوي من روسيا، وتنفيذ عمليات ميدانية في سوريا رغم التحفظات الأمريكية.
فيما تحقق أنقرة تقدماً واسعاً في ساحات متعددة، من أفغانستان إلى إعادة إحياء منظومة الدول التركية، إلى أذربيجان وكازاخستان، ربطاً أيضاً بالاتفاق الذي وقعته أنقرة مع ليبيا، حول النفط في البحر الأبيض المتوسط. وهذا كله فرض تركيا لاعباً أساسياً في المنطقة وفي إعادة رسم خطوط النفط والغاز والمشاركة في عمليات التنقيب والاستجرار، وهذا التقدم لا يزعج فقط دولاً كإسرائيل وروسيا، بل يفتح ملفات صراعية جديدة بين أنقرة وطهران، وهذه الملفات باتت تعيد كرة النار ليتقاذفها الجانبان بدءاً من أذربيجان وصولاً إلى العراق وسوريا وربما لبنان.
لبنانياً لا يمكن فصل سياق الهجوم الذي أطلقه حزب الله على أنقرة على لسان النائب محمد رعد، رئيس كتلة الحزب البرلمانية، عن تحولات العلاقة الإيرانية مع أنقرة والتي قد تشتد تباعاً فيما بعد، والذي قال إن "الولايات المتحدة توظّف إسرائيل لإغراء دول كالإمارات وتركيا وغيرهما، وتوعز بالخراب في الدولة التي لا تخضع"، وهذا الموقف ليس ذا دلالات لبنانية فقط، وإنما هو محاولة لقطع الطريق على أنقرة في حال قررت الحضور لبنانياً.
وهناك من يرى أهدافاً أبعد لهذا الهجوم، تبدأ من الخلاف بين إيران وتركيا حول الوضع في العراق، وخصوصاً بعد الانتخابات النيابية وعملية تشكيل الحكومة، وموقف الأتراك والقطريين من ضرورة استعادة الدولة الوطنية العراقية لدورها بعيداً عن شكل الدولة الميليشياوية الطائفية والتي تكرست تحت عناوين عديدة من حماية المراقد لمواجهة التطرف وأنتجت تطرفاً مماثلاً.
تركيا تتحرك وإيران تنزعج
لذا فإن تركيا ترفض الموافقة على ما تريده إيران وتسعى إلى فرضه من خلال الإطار الشيعي، فيما تسعى تركيا إلى تعزيز علاقاتها العربية والخليجية والتي ستتوج بزيارة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للسعودية والإمارات وفتح صفحة تعاون جديدة بين دول ذات غالبية سنية، بالإضافة إلى أن أنقرة توازن في علاقاتها بين إسرائيل مؤخراً والتي سيزور رئيسها أنقرة خلال أسابيع وبين حركة حماس والتي يتخذ بعض مسؤوليها من أنقرة مقراً لهم، وهم محسوبون على الجناح غير الراضي عن الانغماس بتحالف إيراني لمواجهة العرب.
هذه الملفات باتت تزعج الإيرانيين إلى حدّ بعيد، فكيف إذا انعكست على دول المنطقة، في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية لدول حليفة لإيران وتحديداً في العراق والتي فشلت طهران إلى الآن في فرض حكومة على التحالف الجديد القائم بين التيار الصدري والكتل السنية التي يقودها الرئيس الحلبوسي وخميس الخنجر.
وقبيل هجوم حزب الله وجماعاته في لبنان وأدواته الإعلامية على الأتراك تشير أوساط مطلعة إلى أن الحزب سعى لفترات ماضية بفتح قنوات تواصل مع الأتراك للتنسيق في ملفات كسوريا والعراق، وقوبلت بالرفض المطلق، لأن أنقرة حريصة في تعاملاتها على أن تبقى محصورة بالدول وهي تتعامل مع حزب الله بكونه مكوناً لبنانياً فقط كجزء من التوازنات اللبنانية التي يشكل فيها الحزب حضوراً حقيقياً، لا دولة فوق الدولة.
ماذا بعد؟
في حال استكمال هذا المسار فسيؤدي إلى إرساء متغيرات متعددة في القواعد السياسية القائمة في المنطقة. ولا يمكن فصل هذا التوتر الإيراني-التركي، والذي تلوح فيه إيران بوقف إمدادات الغاز إلى تركيا، عن مسار الصراع الأوسع في العالم والأزمة الأوكرانية، والتوتر بين الطرفين خلال معارك أذربيجان وأرمينيا.
إضافة إلى استمرار الخلافات حول الملف السوري، ودخول حزب الله على خطّ الكبار في السياسة الدولية وأزماتهم يعني استدعاء المزيد من التطورات نظراً إلى الوقائع السياسية الدولية والإقليمية، والنقاش الجاري عن التحضيرات المنتظرة لتوقيع الاتفاق النووي بين طهران والدول الكبرى.
لكن هذه الأجواء المتسارعة بين الدول الكبرى والحاضرة إقليمياً تتلاقى مع جملة نقاشات دبلوماسية إقليمية ودولية، لا سيما لدى موسكو وأنقرة ودول أوروبية وعربية كفرنسا وقطر والكويت ومصر، وعنوان هذه النقاشات تكمن في التوصل لخلاصة رئيسية أن حزب الله بات يشكل عبئاً على النظام الإقليمي ونذير خراب على دول تسعى كل الأطراف للتوصل وإياها لاتفاقات وتحديداً السعودية، التي تربط أي حل إقليمي يمر من لبنان بوقف نشاطات الحزب وحلفائه في اليمن والعراق وسوريا وقطاع غزة.
فيما الوقت الضائع والهوامش والخطوط المسموح بالتحرك ضمنها والتي كان حزب الله يراهن عليها بدأت تتقلص وتتلاشى عند كل يوم إضافي، ويقود ذلك إلى قراءات متعددة لجهات إقليمية بأن هناك ضرورة لتقليص نشاط الحزب على الساحة الإقليمية، من دون امتلاك أي تصور واضح حول كيفية تحقيق ذلك، وما هي التبعات التي قد تنتج عن حشر أهم ذراع إيرانية في الزاوية.
وعليه، فإن أي قرار دولي أو إقليمي يفضي لتخفيض دور حزب الله أو إرغامه على التراجع في ميادين سوريا والعراق التي يشتبك فيها الأتراك والعرب مع إيران وحلفائها المحليين قد يفضي لعودة الانهيارات بين أكبر معسكرين في مساحة واحدة.
والتاريخ لا يكذب، وقد نعود لعهد المحاولات الصفوية لإضعاف الإمبراطورية العثمانية وما نتج عنها، وهذا الخطاب بالتهجم على تركيا والخليج معاً جزء من حملة حزب الله لاستنهاض بيئته المتعبة بالحديث عن تحالف سُني يخضع للتجربة بين الخليج وتركيا.. فلننتظر!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.