التطبيع في محيطنا وإقليمنا ليس مُقابله الرخاء الاقتصادي والرفاهية للشعوب كما يظن بعض الغافلين الذين لا ينظرون إلى التجارب من حولنا.
التطبيع مُقابله حماية الأنظمة العربية التي توافق على التطبيع وتمكينها، وبالتالي تصبح أنظمة تحت الحماية والوصاية، وبالضرورة تمكينها لن يكون بغير القوة الأمنية ما دامت هي فاقدة للسند الشعبي وتتجه لوِجهة لا ترضاها شعوبها.
الصورة التي يرضاها التطبيع وتتناسب معه هي صورة الديكتاتوريات الباطشة بالداخل المُصادِرة لحق شعوبها في الاختيار (عبد الفتاح السيسي نموذجاً). وعلى هذا فالثوريّ والناشط والحزبي -أيّاً كان اتجاهه الفكري أو التزامه الأخلاقي- لا يمكن أن يكون التطبيع اختياره، لأنَّ النموذج الذي يصنعه التطبيع في منطقتنا لا مكان فيه لثُوَّار ولا نُشطاء ولا أحزاب.
وفي ليل التطبيع المُظلِم يُفْتَقدُ الإمام
الآن فقط تَبيَّن لكل ذي عينين أنَّ وعودَ رغدِ التطبيع وانتظار جنةِ رخائه كانتْ محضَ أوهامٍ وغطاء لمشروع تمكين قوة مهيمنة موالية لدولة الكيان لا أكثر ولا أقل. الآن فقط يحتاج من سعى ذلك المسعى البائس إلى بعض اعتراف… فكلهم قد كانوا فيه شركاء… إن سلمنا بأن البرهان ذهب وحده من تلقاء نفسه ليلتقي بزعيم ذلك الكيان في أوغندا فقرار إلغاء قانون مقاطعة دولة الكيان كان قرار مؤسستهم جميعاً التي كانوا فيها شركاء.
الآن فقط نحتاج إلى أن نذكر بالخير ونشكر مَنْ كان لنا ناصحاً أميناً ورائداً لا يكذب أهله وكنا عنه نحن مُعرضين!
كان الصدِّيق -رضي الله عنه- إذا ذكر يوم "أُحد" قال: "ذلك اليوم كله لطلحة"؛ لعظم بلاء طلحة بن عبيد الله وجهاده في ذلك اليوم. ونصدق جداً نحن إنْ قلنا إنَّ يوم مناهضة التطبيع عندنا كان طلحتنا وحمزتنا وزبيرنا وعليّنا فيه الإمام الصادق المهدي، رحمه الله.
كان يمكن لإسلامي (صادق) أن يقف يحدِّث الناس في التطبيع حديث العقيدة الصافية عن أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يمكن لقومي (صادق) أن يحدِّث الناس عن خطورة هذا الكيان على قوميةٍ الأصلُ فيها أنها أمة واحدة ذات رسالة خالدة. وكان يمكن لشيوعي (صادق) أن يحدثهم عن واجب الثورة في حركة تحررية ضد كيان تجاوز الاستعمار إلى الاستيطان. وكان يمكن لمؤمن بحقوق الإنسان (صادق) أن يحدّث الناس عن (لا إنسانية) الكيان وعن جرائمه وانتهاكاته في هذا الباب، لكن الذي جمعَ ذلك كله وزادَ عليه في مرافعات متماسكة ومقالات محكمة وحجج دامغة كان الإمام الصادق المهدي.
كان الرجل شديد الإيمان بأن التطبيع في منطقتنا ينطوي على مخاطر سياسية وأمنية ومجتمعية، وكان يعرف بنظره البعيد أن التطبيع في محيطنا الذي نعيش فيه والديمقراطية ضدان لا يجتمعان. وأن التطبيع والحريات نقيضان لا يلتقيان. كان يرى (التطبيع) و(التركيع) و(التقطيع) حلقات تنتظم مع بعضها في سلك واحد كل حلقة تقود إلى أختها.
كان رأيه المعلن الذي جهر به والذي هو خلاصة كل الذي سبق أن التطبيع لا يكون مع غير الطبيعي، وهذا الكيان غير طبيعي، لم يكتفِ رحمه الله بواجب البيان فقط، بل ذهب في خطوات أبعد.
قاطع مؤتمرات في الداخل بعد خطوة التطبيع الأولى وصرَّح بضرورة محاكمة مَنْ قام بها بقانون مقاطعة الكيان الذي كان سارياً، وقد كان له من الوزن السياسي ما يجعل تصريحه هذا يُحسبُ في دائرة الفعل لا دائرة الكلام. لم يكن بمستغرب والحال هذا حاله أن يكون آخر ما خطه بيده رحمه الله وصلاً لبيانه في مناهضة التطبيع وأباطيله وترهاته. كان الإمام الصادق رحمه الله ينبوعَ حِكمة ومستودع نَظَر، لو هدأتْ ثائرةُ الحملات المُوجَّهة ضده وانقشعَ غبارُ التربص به وانزاحَ سِتر الحَزازات القديمة عليه وانكشفَ حجابُ المُعاصَرة المُزهِّد فيه.
من عِبَرِ الفترة الانتقالية بالسودان
التطبيع والتحول الديمقراطي ضدان لا يلتقيان… الذين صَفَّقوا لخطوة التطبيع أملاً في تحسن اقتصاد من ورائها غاب عنهم أن الكيان غير الطبيعي الذي يعلم أنه مرفوض شعبياً لن يختار غير الأنظمة الفوقية التي لا تنتخبها تلك الشعوب الرافضة له… ولن يكون أمامه خيار غير قطع الطريق على أيِّ محاولة لتمكين الشعوب تلك من حقها في الاختيار.
البرهان ما يزال في حواراته على الفضائيات العربية يؤكد أنه ساعٍ للتطبيع مع الكيان، والبرهان كان ساعياً لهذا التطبيع قبل 25 أكتوبر/تشرين الأول في وجود البعثيين معه في سلطته.
تعرَّفْ إلى شعبك في الرخاء يعرفْك في الشدة.. الأصل في الفترات الانتقالية أن تحميها الكثرة الكاثرة من القوى الشعبية وليس الهرولة الى الكيان الصهيوني.
وبالضرورة هذه الحماية الشعبية تحتاج أول ما تحتاج أن تشعر هذه القوى أن هذا الانتقال منها وبها وإليها، الذين جعلوا الفترة الانتقالية في وثيقتها الدستورية وفي سُلطاتها وفي إعلامها وفي كل شيء حقاً خالصاً لهم من دون الناس إلا من شركائهم العسكريين سيعسُر عليهم جمع الجماهير على شدة، وقد كانوا على أيام رخائهم في هذه الجماهير من الزاهدين.
ما جعلته خاصاً بك لن يصبح فجأة يعني الجميع!
السياسي السوداني يمكن أن يربط على عنقه كرافتة البنك الدولي وهو يُغنِّي لشرف الأيدي العُماليّة، ويطلب نصراً من "فولكر" وهو يُغنِّي لـ"كرري" التي تُحدِّثُ عن رجالٍ كالأسود الضارية، ويشارك ساعياً للتطبيع وهو يهتف لأمةٍ عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أو يُصفِّق له وهو يهتف القدس لنا لا للظلمة!
يفعل هذا كله بلا أدنى شعور بالحرج أكثر السياسيين عندنا يرفضون وجود العسكر في السياسة فقط حين يكون العسكر حلفاء لخصومهم السياسيين، لكن متى ما أظهر العسكر ميلاً لهم واستعداداً لمساعدتهم في دهس خصومهم السياسيين، حينها يصبح العسكري الذي كانوا يشتمونه بالأمس حارسَهم وفارسَهم وبيتَهم ومدارسَهم.
أكثر السياسيين عندنا يريدون العسكر مطرقةً يهوون بها على رؤوس خصومهم وبازاً يصيدونهم به.. فإذا ارتدت تلك المطرقة لضرب رؤوس الجميع -كالعادة- وانقلبَ ذلك "الباز" ليصيد الجميع -كالعادة أيضاً- رجعت شتيمة العسكر من جديد!
بكل أسف، هذه هي دورة حياتنا السياسية التي ندور داخلها منذ الاستقلال بلا تعلُّم من درس ولا استفادة من تجربة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.