أي روح منحها الله لريان؟ لطفل لم يتجاوز خمس سنوات حتى يقاوم الجوع ووحشة المكان وضيقه؟
أي روح بثها الله في الناس حتى لبوا النداء، واجتمعوا من كل صوب ليساندوا هذا الطفل ويزرع الأمل في النفوس بإمكان إخراجه حياً؟
روح غريبة وجبارة فعلت فعلها، وأشعلت البواعث الإنسانية في النفوس، واستدعت كل أوجه التضامن، وجعلت الناس يستغنون عن نومهم، ليتابعوا من كثبٍ عمليات الحفر، متراً بمتر، شبراً بشبر.
تتوقف عمليات الحفر، يتداعى الجميع للسؤال وللهتاف. قلوبهم مع ريان، ودعاؤهم لا يتوقف أن يجعل الله في الأمر خيراً.
لا تتوقف بشائر الأمل، فالأمتار تتضاءل، والمخاطر تزول، وأمطار الخير تتوقف، تخشى أن تفسد الأمل.
روح ريان مثيرة، وحَّدت ما لا يتوحد. أوقفت خلافات السلطة والمجتمع، وأجَّلت صراع الصحافة مع السلطة، فصار الجميع واحداً، متضامناً، يسارعون الخطى جميعاً، من أجل أن يكبر الأمل. تتدفق المعلومة الدقيقة، تخرج من غير تعتيم، من رجال الإنقاذ، وتتلقفها الصحافة التي لا تنام، تريد أن تبشّر بها شعباً فارق عينَه النومُ من أجل سماع الخبر الأخير.
صحافة من كل الجنسيات، من مختلف المواقع. مشهد غير مسبوق، غير معهود.
تناديك ابنتك صباحاً قبل أن تأخذ وجبة فطورها، هل أنقذوا ريان؟
تجيبها بلحن مطمئن: اقتربت الساعة… ساعة الفرج.
روح الله في ريان جمعت كل الخبراء: الذين تلقوا العلم في الجامعات، والذين تدربوا في الإنقاذ، والذين مارسوا مهمة حفر الآبار أباً عن جد، والمسارعين للتطوع، للدخول إلى عمق البئر، للمساعدة في الإنقاذ. حفَّزتهم بقوة لفعل المستحيل. لا يكلّون ولا يملّون. يتناوبون، ولا يتركون الزمن يفلت من بين أيديهم، فريان يقاوم، لكن لمقاومة الأطفال سقف في الزمن، لا تجاوزه.
روح الله في ريان تجاوزت الحدود، وصارت تبعث دواعي التضامن والتعاطف في كل بلاد الخير، بلاد العرب الطيبة، وبلاد العجم، يسارعون بالدعاء، ويعلنون التضامن والاستعداد للبذل والعطاء، ويعيشون اللحظة بكل تفاصيلها كأنهم هناك يحفرون بآلياتهم.
أرض الجزائر الطيبة، قاومت عداءات السياسة ولعنتها، ونسيت كل شيء، وتعلَّق قلبها الطيب بريّان.
روح الله المبثوثة في ريان وحَّدت الشعبين، وأبطلت مفعول سحر الذباب، الذباب من كل جانب، وتفجرت المعاني الطيبة. معاني التضامن والتعاطف ووحدة القلوب ووحدة المصير، ووحدة الشعب الواحد، فالشعب الجزائري والمغربي "شعب واحد لا شعبان".
روح الله المبثوثة في ريان، الصابر المقاوم، لقَّنت الجميع درساً لا يُنسى، ولا ينبغي أن يُتجاهل، فالشعوب تجتمع على حياة الإنسان، وكرامة الإنسان، وقيمة الإنسان.
الشعوب تمزقها السياسة، وتمزقها المصالح، والصراعات على الأغراض، لكن ما يوحدها هو الإنسان؛ مشاعره، كرامته، قيمته.
درسُ ريان لا ينبغي أن تخطئه العين، فبالأمس، دخلت السياسة كل شيء، وأفسدت حتى الجميل الممتع في حياتنا: كرة القدم، لكن اليوم، روح الله المبثوثة في ريان قلبت المعادلة رأساً على عقب، فما يوحد الشعوب، ويقوّي آصرتها، هو العناية بقيمة الإنسان، بحياة الإنسان، بمِحَنه وابتلاءاته.
روح الله في ريان حرَّكت المساجد، والمدارس، وقاعات الرياضة، ومنتديات الإعلام، وحفزت الرسامين وأصحاب الكاريكاتير للإبداع والتعاطف
ريّان طفل صغير، لا يملك أن يلقننا الدروس، فهو يقاوم من أجل الحياة، وهو إلى الآن يملك مؤشراً واحداً يدعونا إلى الأمل في حياته، وهو التنفس.
لكن الريح الذي يجلبها إلى صدره، هي روح تبث من جديد في الأمة تُبصِّرها بالطريق إلى وحدة الشعوب: حياة الإنسان، وقيمته وكرامته.
ما كان أحد يظن أن في المغاربة معدناً أصيلاً بهذا المستوى العالي من التضامن، وما كان يظن العرب أن شعوبها تحمل من التعاطف ما يجعلها فوق ألاعيب السياسة، وما كان أحد يظن أن هيمنة القوى العظمى على مقدرات الأمم الضعيفة سيجعلنا نرى شعوب هذه الدول تنبذ سياسات نخبها المتنفذة، وتختار أن تعيش اللحظة مع ريان، مع محنته، مع مقاومته، متناسيةً كل الإكراهات التي تعاينها، كما لو كانت تقول في العلن، إن حالة العالم، اليوم، أشبه ما تكون بحالة ريان، الذي يتنفس تحت وقع الألم، ويحتاج لتضامن جميع بني الإنسان من أجل إخراجه من هذه الحالة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.