بداية، هذه المقالة ليست عن كرة القدم، وإنما عن الدروس المستفادة من مشاركة منتخب مصر لكرة القدم في بطولة كأس أمم إفريقيا التي نظمتها الكاميرون هذا العام.
كنت أشاهد ردود الفعل تجاه منتخب مصر ليس كمنتخب يلعب رياضة وإنما كشعب كبير وكحكومة ينظر إليها الأفارقة نظرة لا نحبها كمصريين، ولعلك -قارئي العزيز- تعرف أن الرياضة في القارة السمراء أيضاً ترتبط بالسياسة وتمثل المواقفَ السياسية أكثر من أي قارة أخرى، ولعلك تعرف كذلك أن معجم كرة القدم بشكل خاص يعتمد على مفردات عسكرية صرفة، مثل رأس الحربة، والدفاع، وحارس المرمى، والهجمة والهجمة المرتدة، إلخ. وكل هذا يجعل منها لعبة "أكثر من مجرد كرة" بامتياز.
ولا يخفى على أحدٍ الآن حالة الاحتقان التي قد تكون بين المنتخبات الإفريقية وجماهيرها، وبيننا كمنتخبات عربية من شمال إفريقيا، خصوصاً تجاهنا كمصريين، وربما لا تسنح الفرصة لإظهار هذا الاحتقان إلا من خلال مسابقات كرة القدم القارية، ولهذا أسباب متعددة تقع مسؤوليتها -بكل صراحة وللأسف الشديد- على المصريين أكثر من غيرهم، وفي ما يلي بعض منها.
الأسباب
قد يُظهر بعض المصريين خلال تعاملهم مع الأفارقة، أنهم أرقى جنساً وأصلاً من الأفارقة الذين يرون في بشرتهم السوداء عيباً خلقياً، ولا يستتر هؤلاء المصريون من بلوتهم تلك، بل يصرحون بها ويجعلون البشرة البيضاء دون غيرها مقياساً للجمال، بل يربطون بين البشرة السوداء ومهن بعينها لا تخرج عن دائرة الخدمة بالمنازل في الأغلب الأعم، ويمكنك التأكد من ذلك -للأسف- بالتجول في شوارع المحروسة.
وهذه النزعة العنصرية لدى فئة من المصريين قد تمتد كذلك لبني وطنهم من سكان الجنوب رغم طيبة وكرم ونخوة هؤلاء الجنوبيين. ومثالاً على ذلك، فقد رأيت بعيني كيف يتعامل بعض المصريين بكل احترام وتلطف في أحد فنادق الغردقة مع النزلاء الأوروبيين ذوي البشرة البيضاء والعيون الملونة وكيف يتعامل هؤلاء أنفسهم بتكبر ظاهر مع النزلاء الأفارقة، على الرغم من أن هؤلاء "السود" سياح، مثلهم مثل "البيض" الأوروبيين.
ولعل كلمة "شوكولاتة" -كما لا يخفى على كثير منا- صارت لصيقة بكل فتاة سوداء في شوارع لا يحصى عددها في المحروسة، وهذه كلمة لطيفة مقارنة بعدد كبير من الكلمات التي أستحي أن أذكرها هنا.
فنظرنا وما زلنا ننظر إلى أوروبا على أنها الجنة الموعودة التي يجب أن يصلوها طلاباً وتجاراً ودعاة، إلخ، رغم النظرة الدونية التي ينظر بها البعض في أوروبا إلى المصريين (ولغيرهم). وعلى الرغم من أن هذا الاهتمام بأوروبا ليس عيباً في حد ذاته، فإن العيب الحقيقي هو عدم مراعاة البعد الإفريقي، لأن مصر جزء من إفريقيا وليس من أوروبا، ولأن أمن مصر المائي يعتمد على نهر النيل الذي ينبع من إفريقيا وليس من أوروبا، ولأن الدم المصري أقرب للدم الإفريقي وليس الدم الأوروبي، إلخ.
ونتيجة لاهتمام المصريين بأوروبا والأوروبيين على حساب إفريقيا والأفارقة، لا يعتبر كثير من الأفارقة مصرَ دولة إفريقية. هذه حقيقة رأيتها بعيني في تعاملي مع طلاب أفارقة كثر في بريطانيا كانوا يتعجبون من وصفي لمصر بأنها دولة إفريقية. بالطبع لا يذكر هؤلاء التاريخ المصري القديم عندما كانت لمصر علاقات تجارية متميزة مع دول إفريقية، وأبرزها بلاد بنط التي مازالت معاملاتها التجارية مع مصر مسجلة على حوائط معبد حتشبسوت بالدير البحري بالأقصر. ولا يذكر هؤلاء الأفارقة كذلك فترة العسل القصيرة بين مصر ودول إفريقية متعددة إبان عصر عبد الناصر قبل أن يقطع السادات ومن بعده مبارك علاقة مصر بإفريقيا نهائياً.
وحديثاً، جاءت أزمة سد النهضة… وللأسف الشديد، لم يكن التعامل مع أزمة سد النهضة مناسباً لضخامتها، حين لجأت مصر للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ثم الأمم المتحدة، وكل هذا أعطى الفرصة لإثيوبيا للظهور بمظهر المجني عليه لا الجاني.
هل من حل؟
نعم، الحل في الاستثمار الاقتصادي المصري الحكومي والخاص في إفريقيا، وإقامة فروع للجامعات المصرية بإفريقيا، وإنشاء فروع لجامعة الأزهر بالدول الإفريقية ذات الغالبية الإسلامية، وإقامة جسر تواصل قوي بين الكنائس المصرية ومثيلاتها الإفريقية، وإقامة معرض كتاب سنوي كبير لدور النشر الإفريقية في القاهرة يرافقه مهرجان سينمائي للأفلام الإفريقية ولو ليوم واحد.
وكذلك، تشجيع أقسام اللغات الإفريقية بالجامعات المصرية على ترجمة عيون الآداب الإفريقية للغة العربية حتى يعلم المصريون شيئاً عن ثقافة من يشاركوننا الدم والماء، وتخصيص يوم ثقافي مرة واحدة كل شهر يخصص لدولة إفريقية تُعرض فيه على الشاشات المصرية عينات مما تنتجه الدول الإفريقية من مسلسلات وأفلام وأغانٍ وأفلام وثائقية تشرح ثقافة الدولة، وتركيبتها السكانية، والعقائدية، وخلافه.
أعتقد أنه لو تبنت الدولة هذه الحلول المتواضعة واستشارت المتخصصين في الشأن الإفريقي لوضع خطة استراتيجية لتحسين صورة مصر بإفريقيا وتعزيز مركزها كقوة إقليمية في محيطها الجغرافي، لزال الاحتقان الإفريقي تجاه مصر –حكومة وشعباً– ليس في المسابقات الرياضية فقط وإنما على كل المستويات. فهل نرى ذلك اليوم؟ أتمنى..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.