"وصول منتخب مصر بقيادة كيروش لنهائي كأس أمم إفريقيا".. كان ذكر تلك العبارة سواءً على مستوى الجماهير أو المحللين قبل أسبوعين من الآن سيعرضك لهجوم من السخرية والنقد المحق في وقتها نظراً لفقدان هذا الكلام للمنطق، ولكن سِحرٌ ما سقط على الفراعنة في الكاميرون وضع أسساً جديدة للمنطق وكتب بالخط الأحمر أن المنطق مصري يكتبه المصريون بأقدامهم لا يقبلون أن يتحكم بأقدارهم الكروية سياسات الكاف أو حكام أو تدخلات خارج البساط الأخضر فانتصروا في "حرب إيتو" التي حاول تجهيز لاعبيه لها وكالعادة لتعود مصر إلى سهرات الفرح في الشوارع وتعود فرق الكاميرون وإفريقيا للنوم المبكر.
وهذه المرة ووصول النهائي لا يشبه بالمرة التأهل في نسخة 2017 فشتان بين مكاسب هذا وذاك، بين مكاسب خدمتها الظروف والأداء الدفاعي وبين أداء "رجولي" أعاد الهيبة المصرية وأعاد رعب "منتخب الساجدين" الذي ذاع صيته وصال وجال في أحواش إفريقيا والتي أضاعها من لم يستحق تمثيل هذا الاسم في السنوات الماضية.
واليوم بذلك التأهل نبارك لمصر ولادة صعبة وهي ولادة جيل جديد نراه بنفس الروح ونفس الغيرة ونفس الشخصية التي طال انتظارها ولكن علمنا أنها قادمة، وأياً كانت نتيجة النهائي التي ستصحبها عوامل كثيرة من الإجهاد البدني المميت في لعب 120 دقيقة ثلاث مرات خلال فترة زمنية صغيرة، سواءً انتهت القصة بتلك النهاية السعيدة أو لا فإن ذلك لن يمنع تلك المكاسب التي خرج بها المنتخب المصري من تلك البطولة، فوصول مصر اليوم للمباراة النهائية يجب وضعه في إطاره الصحيح.
وصول مصر في نسخة الجابون للدور النهائي يجب التفرقة بينه وبين وصول المنتخب على حساب الكاميرون وقبلها ساحل العاج والمغرب وفي مجموعة ضمت نيجيريا، فكان انتصاراً بروح وهوية افتقدها منتخب الجابون.
رضا الشعب المصري غاية لا تستطيع أن تنالها بسهولة
إن استعرضنا مكاسب المنتخب فلابد من أن نبدأها بفوز المنتخب الأهم وهو استعادة قلوب الشعب المصري بكافة طوائفه والإيمان بمنتخبهم وثقتهم به، والتي افتقدوها منذ 2010، وآخر مرة رُفع فيها كأس الأمم في شوارع القاهرة.
فالليلة الماضية اهتزت الشوارع في مشهد يشبه احتفالات الفوز بالبطولات إلا أنها كانت احتفالات برجال المنتخب القومي بمن استطاعوا الحصول على ثقة الجميع.
ويشبه ذلك المشهد تلك الليلة في القاهرة في نهائي منتخب الأولمبي المصري أمام ساحل العاج وفوزه ببطولة إفريقيا للشباب أقل من 23 وتأهله لدورة الألعاب الأولمبية طوكيو، في تلك الليلة التي كانت بعد خروج المنتخب المصري على أرضه من أمم إفريقيا في دور الـ16 أمام جنوب إفريقيا، وحينها كان الدعم للشباب ولاحق العارُ الكبارَ نظراً للروح الميتة التي لعبوا بها، وغير ذلك أن المكسب في ذلك اليوم لم يكن بطولة فحسب بل جيلاً رأينا من عناصره اليوم في منتخب الكبار أعادوا الروح في منتخبٍ ظن الجميع أنه من طي النسيان.
كيروش vs ضجيج المحللين
كارلوس كيروش جاء في أسوأ وقت يمكن لمدرب فني أن يتولى فيه منتخباً وطنياً، ففي آخر الجولات من التصفيات سواء كأس العالم أو أمم إفريقيا وقبل بداية وشيكة لكأس العرب وكأس الأمم تتولى منصب منتخب لا تعرف عنه شيئاً ولا يعرف عنك شيئاً، والمدرب المقال قبلك أقيل رغم عدم خسارته، نظراً لعدم وجود مشروع واضح أو أداء مبشر.
كل تلك الضغوطات قلبها كارلوس إلى محفزات للنجاح، فبعد بداية بطولة سافر إليها منتخب ولاعبون حولهم العديد من الشكوك فاقدين الثقة في أنفسهم أو ثقة المشجعين فيهم استطاع في أقل وقت ممكن قلب كل ذلك إلى دعم وثقة متبادلة وقد كانت مفقودة.
نعم أخطأ كيروش أخطاء قد يراها البعض كارثية واستحقت النقد لكن أخطأ جميع من قلل من هذا البرتغالي الذي رأينا تحت يديه منتخباً متماسكاً بشكل تكتيكي قوي بل وشاهدنا مشروعاً نستطيع لمسه ورؤيته وأداء له شكل واضح بلا فوضى أو لعب عشوائي.
وعلى الرغم من خسارة كيروش لعدة أسماء أساسية بسبب الإصابات، بل وحارسك الأساسي والأسماء الدفاعية، فإن الأسماء التي راهن عليها كيروش في اختياراته كانت هي الحل دائماً. فالمنتخب الذي كان في القاهرة قبل السفر إلى ياوندي يختلف تماماً عن المنتخب الذي يسكن في الفندق هناك في هذه اللحظة بعد مغادرة الجميع إلا مصر والسنغال.
كما استطاع كيروش رفع الضغط عن لاعبيه بتصريح بأن مصر ليست من المرشحين للقب وتعامل مع ضغط شديد وفي بيئة صعبة إلا أن النتيجة أصبحت أن لديك منتخباً سيفوز بالبطولات وسينافس الجميع ليس مجرد بعض المباريات التي وافقك فيها الحظ، فكيروش استطاع خلق المنظومة.
اكتشاف حقل مواهب مصرية في ياوندي بأيدي برتغالية
"المكنة طلعت قماش" على أيدي كيروش فلطالما كان تبرير الجميع بعد الخسائر المتتالية أن "قماشة" اللاعبين الموجودة هي المشكلة إلى أن جاءت الأسماء الجديدة في قائمة البرتغالي واستطاعت إثبات نفسها وليس ذلك فقط بل وأصبح لهم أدوار أساسية في الأداء الذي نراه الآن، ولو وضعنا لكل لاعب في القائمة مقالاً لما كان كافياً لهذا الكم من الـ"رجولة" في أداء اللاعبين.
يا جبل ما يهزك ريح
بالطبع عريس الليلة وكل ليلة هو محمد أبو جبل حارس مرمى نادي الزمالك سابقاً وكل المصريين حالياً، الذي أنسى كل المصريين منافسة الأهلي والزمالك، والمقارنة بين الشناوي وجباسكي، ووقف الجميع يتغزلون في مشهد رائع في جمال الجبل أمام الكاميرون.
فأثبت أبو جبل للجميع أن ما حدث أمام ساحل العاج وتصديه في ربع النهائي لم يكن مصادفة وإنما كان على جبل صامد وأساس قوي لحارس يليق بمنتخب مصر بعد إصابة السد العالي محمد الشناوي ليملأ مكانه بكل قوة ويسد مرمى المنتخب المصري بهدف واحد سجل في مرماه في الأدوار الإقصائية من ضربة جزاء.
محمد عبد المنعم "مالديني"
سباستيان هالر هداف دوري أبطال أوروبا ثم يوسف النصيري لاعب إشبيلية ثم كابتن الكاميرون وهداف البطولة أبو بكر كل تلك الأسماء يمكن أن تجدها في جيب صاحب الـ22 عاماً محمد عبد المنعم، فرغم كل الضغوطات والتخوفات لقلة خبرته يبقى ما يقدمه هذا الولد لا يمكن وصفه، فرغم ذهابه في القائمة وهو يعرف دوره كمدافع احتياطي، فإن الظروف أهدت لنا وللكرة المصرية وزير دفاع جديد بكاريزما وثقة واجتهاد ليس له مثيل في جيله الحالي.
أحمد فتوح لا يعرف إلا لغة الملعب
هذا أشرف حكيمي أفضل ظهير في العالم، وهذا بيبي لاعب أرسنال، وهذه أجنحة منتخب الكاميرون وسلاحها السري في العرضيات، كل هذا لا يفهمه فتوح، ولكن الشيء الوحيد الذي يستطيع فهمه هو أنهم لن يمروا وأنه رغم كل ذلك الضغط فبإمكانه تقديم ذلك الأداء الرائع في الشق الدفاعي أو الهجومي وحتى في تحضير غرفة الملابس إذا أراد المدرب، ففتوح دائما موجود.
الفريق المتناغم
لو تحدثنا عن مكاسب المنتخب فلا بد أن نتحدث عن جميع اللاعبين المشاركين في الملحمة، ونظراً لعدم اتساع المجال لذكر الجميع فلا بد من شكر كل بطل فيما يقدمه المنتخب من أداء، الجميع بلا استثناء لم نجد منهم إلا إخراجاً لطاقاتهم جميعاً طوال الـ90 دقيقة أو الـ120 دقيقة بالتوقيت المصري، الجميع قدم ما عنده وما ليس عنده حتى، فهي بطولة للتاريخ ونتمنى أن تنصف كرة القدم هؤلاء الرجال وتعطيهم حقهم في التتويج بالثامنة بتوقيت القاهرة.
من أجل هذا كله، من مدرب إلى لاعبين إلى روح قتالية، وبينما نتحدث عن المباريات الماضية وظروفها، فإننا في الوقت ذاته نتحدث عن أسباب الفوز في المباراة النهائية بإذن الله. لأن الحلو لا بد أن يكتمل هذه المرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.