في الدقائق القليلة التي تسبق الامتحانات، يظهر كثير من عورات الطلاب والأساتذة والمقررات ونظام الأسئلة؛ أي إن عورات النظام التعليمي تنكشف كاملة في هذه الدقائق المعدودة. ولذا، اعتدت فيما مضى من عمر أن أحرص على متابعة هذه الدقائق عن كثب، وكنت محظوظاً بعض الأوقات لنجاحي في التحدث بلطف مع بعض الطلاب وتشتيت انتباههم في موضوعات لا تمت بصلة للامتحانات حتى تعرف الابتسامة طريقها لشفاهم بديلاً عن التجهم والقلق والتوتر.
قلت كان هذا فيما مضى من عمر عندما كانت الامتحانات في أغلبها امتحانات مقالية، تطلب من الطالب الإجابة عن سؤال قصير بمقالة ليست بالقصيرة تظهر فيها عورات تفكيره وتخطيطه وربما سوء تحليله وقطعاً سوءات تعبيره. ولذا، كان كثير من الطلاب يحفظون الإجابات كما هي من الكتب أو المذكرات الجامعية حتى لا يقعوا في أخطاء وحتى لا يُحرموا من درجة السؤال كاملة، رغم أنف من درَّس لهم المقرر ومهما توسل لهم بقوله: "افهموا وعبروا بأسلوبكم".
ولكن انطلاقاً من التحول لرقمنة كل شيء في إطار تطوير التعليم، تتحول الامتحانات في الجامعات المصرية لامتحانات "اختيار من متعدد" في أغلبها، رغم أنف الأساتذة الذين يرون أنها قد لا تصلح لكل المواد وأنها تخفي مستوى الطالب الحقيقي وتظهره بمظهر الطالب المتفوق مع مخالفة ذلك للواقع. فهذه النوعية من الامتحانات تجعل الطلاب يركزون على نقاط بعينها قد تكون من امتحانات سابقة أو من بنوك أسئلة، دون اعتبار لمهارات التحليل والابتكار وحسن التعبير. وحتى إن لم يعرف الطلاب الإجابات الصحيحة، فلا يزال الحظ متكَأً، وترى الطلاب يقررون الإجابة بمنطق "حادي بادي كرنب زبادي"، وقد يصيبون إجابات كثيرة بهذا المنطق رغم عدم فهم السؤال من الأساس، فهل هذا تطوير للتعليم؟
وقد تكمن الحسنة الوحيدة للأسئلة الموضوعية في التخفيف من ضغوط الامتحانات على الطلاب الذين -في مجملهم- قد يعتمدون على الحظ في اختيار الإجابات، رغم أن هذه الوسيلة عينها هي التي تؤدي بكثير منهم لاختيار إجابات غير صحيحة.
وقد يقول قائل: "هناك عيوب كبيرة في الامتحانات المقالية، فالطلاب يحفظون الإجابات عن ظهر قلب من الكتب والمذكرات، والأساتذة مجبرون على إعطائهم تقديرات مرتفعة لأن إجاباتهم صحيحة، وهذا خطأ".
وردي: هذا قول صحيح، لكن الحل لا يكون بـ"الاستجارة من الرمضاء بالنار". فالتعليم الجامعي يفترض به تخريج طالب مؤهل لامتهان مهنة وليس مجرد الانتقال من مرحلة تعليمية لمرحلة أخرى. ولهذا، لابد ألا يعتمد على امتحانات فقط، بل على وسائل تقييم متنوعة من امتحانات تحريرية تجمع بين الأسئلة المقالية والموضوعية، واختبارات شفهية، وتدريب ميداني/عملي، وتكليفات منزلية، وعروض تقديمية يقدمها الطلاب داخل قاعات الدراسة أو تجارب داخل المعامل، وخدمة مجتمعية… هذه ستة أجزاء إن عددتها (قابلة للزيادة بالطبع)، ويمكن أن يوزع عليها مجموع الدرجات بالتساوي لكي لا يكون لجزء منها وزن نسبي أكبر من غيره.
وهذه الأجزاء الستة في التقييم يمكنها أن تساعدنا في ربط الطلاب بالمجتمع قبل تخرجهم، ومنحهم الثقة في أنفسهم، والاعتماد على جهودهم الفردية، ويمكنها كذلك أن تجعل الدراسة وتطبيقها في الجامعة والبيت والمجتمع سواء بسواء.
بالطبع يتطلب مقترح مثل هذا تنسيقاً كبيراً بين أعضاء هيئات التدريس وإدارات الأقسام والكليات والجامعات من جهة، وبين كل هؤلاء والمجتمع من جهة أخرى. وبالطبع، يتطلب هذا دعماً مادياً أكبر بكثير من الدعم المتاح الآن في أغلب الجامعات المصرية، وخاصة الحكومية. وحتى يتم ذلك، يجب أن تتحول الجامعات لجهات منتجة، وهذا ممكن شريطة أن تتولى المسؤوليات الجامعية قيادات لها رؤية لا قيادات تمسك بالقلم لتوقع على مجموعة أوراق طيلة اليوم. فهل نرى مثل هذا اليوم؟ أتمنى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.