لا جديد يُذكر في وصف إسرائيل بأنها دولة فصلٍ عنصري. إذ يُواصل الفلسطينيون ترديد هذا الأمر منذ عقود.
حيث يمكن العثور على واحدةٍ من أوائل الاستخدامات لهذا المصطلح القانوني في أفرودةٍ رائدة كتبها الأكاديمية السوري الفلسطيني فايز صايغ (1922-1980) عام 1965. وبعد قرنٍ من الزمن، صدر الكتاب الأفضل مبيعاً للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر عن الصراع تحت عنوان: "سلام لا فصل عنصري Peace Not Apartheid". في حين شجب كبير أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو، ممارسات الفصل العنصري على يد الدولة الإسرائيلية.
كما أعلنت "بتسيلم" منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية الرائدة، إسرائيل دولة فصلٍ عنصري في العام الماضي. وتبعتها في ذلك منظمة هيومن رايتس ووتش بعد بضعة أشهر، وكذلك فعلت منظمة ييش دين الحقوقية الإسرائيلية، التي خلصت إلى أنّ "هناك جريمة فصلٍ عنصري ضد الإنسانية تُرتكب في الضفة الغربية".
بينما أطلقت منظمات الحق، والضمير، والميزان الحقوقية الفلسطينية وصف دولة الفصل العنصري على إسرائيل قبل عقود. لكن حقيقة استخدام منظمة العفو الدولية لهذا الوصف بعبارات واضحة لا لبس فيها هو أمرٌ تاريخي.
ولا يتعلق الأمر بكون منظمة العفو الدولية مجتمعاً من نشطاء حقوق الإنسان الذين يصل عددهم إلى 10 ملايين ناشط. ولا بحقيقة أنها منظمةٌ معترفٌ بها دولياً. لكن تقريرها يمثل نقطة تحولٍ في انطباع العالم عن النظام الذي يخضع له أكثر من سبعة ملايين فلسطيني من النهر إلى البحر، بالإضافة إلى عددٍ مماثل من فلسطينيي الشتات.
وخير دليلٍ على أهمية التقرير هو رد الفعل الجامح الذي قوبل به من جانب إسرائيل والجماعات المؤيدة لها في بريطانيا والولايات المتحدة.
رد فعلٍ جامح
وصفت إسرائيل تقرير المنظمة بأنه زائف، ومنحاز، ومعادٍ للسامية بعد محاولةٍ فاشلة منها لمنع نشره. حيث يرى وزير الخارجية يائير لبيد أن منظمة العفو الدولية هي "مجرد منظمة راديكالية أخرى تردد الدعاية دون التأكد من صحة الحقائق بشكلٍ جاد".
لكن لبيد كان عليه أن يقرأ التقرير أولاً قبل الإدلاء بهذا التصريح. إذ إنّ صفحاته الـ280 هي نتاج أربع سنوات من البحث والتدقيق الشديد في الحقائق على يد المنظمة، التي لها سجلٌ معروف من الحذر والموازنة في التعامل مع هذا الصراع. فحتى يومنا هذا، لا تزال المنظمة ترفض اتخاذ موقفٍ ضد الاحتلال، ولهذا ينتقدها الفلسطينيون.
وقد اتهم لبيد المنظمة بأنها انتقائية وتتصيّد لإسرائيل. لكنه اتهام يسهل تفنيده هو الآخر، لأن منظمة العفو الدولية تنقل تقارير الانتهاكات أينما حدثت. ففي مايو/أيار 2020، وصفت المنظمة حملة ميانمار ضد الروهينغا بأنها فصلٌ عنصري.
بينما أدانت عدة منظمات يهودية التقرير ومنها رابطة مكافحة التشهير، ولجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك)، ومجلس نواب اليهود البريطانيين.
إذ وصفته أيباك بأنه "عملٌ مضلل ورجعي يحاول تشويه سمعة إسرائيل". بينما قالت رئيسة مجلس نواب اليهود البريطانيين، ماري فان دير زيل، في بيانٍ لها: "إن استخدام مصطلح (الفصل العنصري) العاطفي ضد إسرائيل هو افتراءٌ غير معقول". لكن ماري لم تحاول نفي الحقائق الواردة في التقرير، لأن شكواها كانت تتعلق بفرضية التقرير أكثر من محتواه.
حيث كتبت ماري: "تزعم منظمة العفو الدولية في بريطانيا أنها تعترف بالحق اليهودي في تقرير المصير، لكن تقريرها يوضح أنها لا تدعم هذا الحق سواءً من خلال التحسر على إنشاء دولة إسرائيل عام 1948، أو من خلال توصياتها السياسية".
ولا شك أن هذا التقرير يعود بنا إلى نقطة البداية. إذ كتبت المنظمة بكل وضوح عما حدث للفلسطينيين حين تأسست دولة إسرائيل وصارت واقعاً مفروضاً على سبعة ملايين فلسطيني تحت سيطرتها، إلى جانب الملايين من فلسطينيي الشتات.
وهذا هو تحديداً ما حاولت أجيالٌ متعاقبة من الزعماء الإسرائيليين، ومؤيديهم في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، بكل جهدها أن تتجنبه. إذ حاولوا جماعياً وبكل السبل الممكنة أن يُضيّقوا على القضية الفلسطينية ديموغرافياً وإقليمياً، وذلك من خلال اتفاقيات أوسلو والمفاوضات المتعاقبة المبنية على مبدأ "الأرض مقابل السلام".
ثم مزّقت إسرائيل مطلب الفلسطينيين بتحديد الوضع النهائي لحقهم في العودة، ثم شرعت في سلب غالبية الفلسطينيين النازحين (5.6 مليون نسمة) من وضعهم كلاجئين. وظنوا أن الصراع سيختفي بهذه الطريقة.
منطقٌ مُفسِّر
جاء تقرير منظمة العفو الدولية عن الفصل العنصري الذي تقوم به إسرائيل بما يتعارض مع هذا المنطق. إذ يدور حول الشعب الفلسطيني ككل، وليس حول السكان الأصليين المتفرقين في مختلف السجون. كما يؤكد أن إقامة الفصل العنصري هي المنطق المُفسِّر لتأسيس -والحفاظ على- دولةٍ ذات أغلبية يهودية وسط مجموعةٍ من السكان العرب، وأن الأمر ليس مجرد صدفةٍ تاريخية.
حيث كان السكان اليهود منذ تأسيسها هم المحرك الرئيسي لعمليات التشريع وصنع السياسات.
وتُوثق منظمة العفو الدولية كيف بُنِيَت دولةٌ ذات أغلبيةٍ يهودية على أساس التشريد، والاستيلاء، ونزع الملكيات، والعزل العنصري. كما تُظهر كيف أن الدولة اليهودية العنصرية ليست بحالةٍ معاصرةٍ شاذة عن السياسات اليمينية أو المستوطنين.
إذ إنها الخلف المنطقي لكل ما سبقها من قبل.
ولم تكن مصادفةً أنّ إسرائيل تحوّلت من "دولةٍ لكل مواطنيها" إلى "دولةٍ قومية للشعب اليهودي فقط"، وهي الكلمات التي نشرها رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو في مارس/آذار عام 2019.
وقد كانت أحداث 1948 خير شاهدٍ على دولةٍ تُعرّف نفسها بأنها تُعبر عن حق تقرير المصير لمواطنيها اليهود فقط، وذلك وفقاً لآراء أنصار قانون الدولة القومية الذي أسّس للفصل العنصري في القانون الأساسي الإسرائيلي حينها. حيث إن تأسيس -والحفاظ على- هيمنةٍ سكانية لليهود كانت ولا تزال الغرض الأساسي من "الدولة اليهودية".
كما أن أفعال الدولة الإسرائيلية اليومية، والواقع الذي يعيشه الفلسطينيون يوماً بعد يوم، تُقوّض أسطورة الرسالة الأخلاقية للدولة اليهودية.
بدءاً بالاستيلاء على منزل عائلة الصالحية في حي الشيخ جراح، والفلسطيني الأمريكي البالغ 80 عاماً الذي تعرض للركل في رأسه وهو رهن الاحتجاز الإسرائيلي، وصولاً إلى حقيقة عدم إدانة أي جندي أو فرد أمن إسرائيلي آخر بالتسبب عمداً في قتل فلسطينيين داخل الأراضي المحتلة منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 بحسب منظمة العفو الدولية. ناهيك عن 370 حالة هجوم نفذها المستوطنون في عام 2021 و126 حالة اعتداءٍ أسفرت عن وقوع إصابات، وكلها مرّت دون تحقيقٍ أو عقاب، وغالباً ما كانت تجري في حضور قوات أمن إسرائيلية أو بالتواطؤ معها. علاوةً على هدم وتطهير قرى البدو في النقب.
هل للكلمات أي أهمية؟ وهل سيتغير أي شيء؟
بين الصهيونية والقيم الليبرالية
يأتي التقرير في وقتٍ تتمتع خلاله إسرائيل بدعمٍ غير مسبوق سواءً داخل أوروبا وأمريكا، أو حتى من جانب روسيا والهند والصين وأنظمة دول الخليج التي أصبحت مهمةً الآن.
إذ يبدو أنها كسرت عزلتها وفازت بالاعتراف الدبلوماسي رغماً عن الفلسطينيين. بينما يخشى الساسة الطموحون في العالم الغربي تهديد وصفهم بأعداء السامية، وذلك في حال تجرأوا على اتباع ضمائرهم والخروج عن هذا الإجماع. فالجميع ملزمون بالتعبير عن دعمهم لحق إسرائيل في الوجود، لكن لا أحد مجبرٌ على قول الشيء نفسه عن الدولة الفلسطينية.
حيث يُقال لهم إن فرض عقوبات على إسرائيل بسبب جرائمها الموثقة والمعروفة في مجال حقوق الإنسان سيكون بمثابة فعلٍ مُعادٍ للسامية، وهو السلاح الذي يُستخدم كثيراً لدرجة أنه بدأ يفقد معناه تماماً. هل منظمة "بتسيلم" معاديةٌ للسامية؟ هل تُعادي صحيفة Haaretz السامية؟ هذا نقاشٌ ممنوعٌ في لندن رغم أنه مسموحٌ ومتاحٌ بكل حرية داخل إسرائيل. لكن التهديدات تنجح في النهاية.
بينما لا تتعرض إسرائيل لأي ضغوط من أجل استئناف المفاوضات حول إقامة الدولة الفلسطينية، وهو أمرٌ يتفاخر به قادتها.
إذ قال لبيد عن اتفاق التحالف الذي وقعه مع نفتالي بينيت: "حين أصبح رئيس الوزراء.. لن نعقد مفاوضات مع الفلسطينيين.. فاتفاق التحالف يمنع إحراز تقدمٍ في هذه المسألة". بينما استبعد بينيت الأمر أيضاً: "لن تكون هناك أوسلو طوال فترتي كرئيس وزراء، ولو أصبحت هناك أوسلو فلن تكون هناك حكومة. أنا أعارض الدولة الفلسطينية. وسأجعل عملية إجراء أي مفاوضات دبلوماسية قد تؤدي لإقامة دولة فلسطينية عمليةً مستحيلة".
فلماذا إذن تكترث إسرائيل وأنصارها لما تقوله منظمة العفو الدولية؟
هناك سببان منطقيات للقلق: الأول هو مسألة الهوية. إذ إن تقرير منظمة العفو الدولية يسلب أنصار إسرائيل من هويتهم باعتبارهم ليبراليين من العالم الغربي، حيث يُجبرهم على الاختيار بين الصهيونية وبين قيمهم الليبرالية، لكنهم سيختارون الصهيونية في كل مرةٍ تقريباً. وتظل هناك بعض الاستثناءات النبيلة بالطبع، وإن كانت قليلة.
أما السبب الثاني فهو أن الحكومات وإن كانت تدعم إسرائيل، فإن شعوبها عموماً لا تفعل ذلك. إذ أصبح الدعم الشعبي لفلسطين أكبر من أي وقتٍ مضى. ويمكنك أن تتأكد من ذلك بنفسك. جرب حمل دلوٍ لجمع التبرعات لغزة أثناء تعرضها للقصف على يد الجيش الإسرائيلي، ثم تجوّل به في أي شارعٍ رئيسي ببريطانيا وسترى بعينك مدى سرعة امتلائه. وربما يمنعك النظام المصرفي من تحويل تلك الأموال إلى فلسطين. وربما تمنعك الجامعات من عقد الاجتماعات. لكن الدلو سيمتلئ بالتبرعات رغم ذلك.
لقد بدأت إسرائيل تفقد الدعم العالمي. أما الحكومات التي تحميها من نفس القواعد التي تنطبق على أي دولةٍ أخرى، أصبحت مضطرة لأن تلجأ للقوة أو التهديد بالعقوبات القانونية من أجل الحفاظ على الوضع الراهن.
الاستنتاجات الصحيحة
ظل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا يتلقى الدعم على مدار أكثر من 40 عاماً من نفس الحكومات الغربية التي تُساند الفصل العنصري في إسرائيل الآن. وحين أجهزت المعارضة الشعبية على فكرة الفصل العنصري، خاصةً داخل المملكة المتحدة، أدى ذلك بنهاية المطاف إلى تحوّلٍ سياسي ضد الفصل العنصري في العالم الغربي. وقد كان التيار المناهض للفصل العنصري قوياً لدرجة أن مارغريت تاتشر، التي وصفت المؤتمر الوطني الإفريقي بالمنظمة الإرهابية في السابق، ساعدت بنفسها في التعجيل بنهاية الفصل العنصري.
وسوف يُلاقي الفصل العنصري في إسرائيل نفس المصير.
ولا شك أن إسرائيل تختلف عن جنوب إفريقيا في العديد من الاعتبارات بالطبع، حيث إن أدوات الفصل العنصري في إسرائيل مختلفة. كما تفتقر فلسطين إلى القائد صاحب الرؤية، بعكس المؤتمر الوطني الإفريقي. فرئيسها محمود عباس هو مجرد شخصية سياسية مستهلكة لا تجرؤ على مواجهة شعبها في انتخاباتٍ حرة.
بينما أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني بمثابة مؤسسات مفرغة. فهي لا تزال موجودةً ظاهرياً، لكنها لا تفعل شيئاً في الداخل. أما حركة فتح فقد استنزفها اعترافها بإسرائيل. وليس هناك ما يمكن مقارنته حتى من بعيد بحركةٍ تحررية يقودها زعيمٌ صاحب كاريزما مثل نيلسون مانديلا.
لكن الأمر نفسه لا ينطبق على شبكة الشباب الفلسطيني الذي نشأ في الضفة الغربية، والقدس، وبين الفلسطينيين في الداخل والخارج. وربما يفتقر هذا الجيل الجديد من النشطاء إلى قائد، لكنه ينضج ويتحول إلى شبكةٍ قوية من المقاومة الفلسطينية، حيث نجحوا باستخدامهم لمنصات الشبكات الاجتماعية في التغلب على أعتى محاولات فيسبوك لفرض الرقابة على صورهم وكلماتهم.
ولو كنت مؤيداً لإسرائيل، لشعرت بالقلق من ظهور قائدٍ فلسطيني يستحق اللقب خلال العقد المقبل.
ولن تستخلص إسرائيل الاستنتاجات الصحيحة من تقرير منظمة العفو الدولية، حيث ستُضاعف جهودها للهيمنة على الرواية السائدة عبر الإنترنت بكل وسيلةٍ مشروعة وغير مشروعة، وذلك في ظل شعورها بخسارتها معركة الرأي العام العالمي بسبب أفعالها اليومية، خاصةً في أوساط اليهود حول العالم.
وربما جرى حل وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية التي كانت مسؤولةً عن زرع جاسوسٍ في المملكة المتحدة، من أجل تأسيس حركات شبابية زائفة داخل حزب العمال وغيره من المنظمات. لكن المحاولات الأخرى لإخفاء الدعاية اليهودية تحت ستار العملاء الأجانب ستستمر دون شك.
وهم محقون في شعورهم بالخوف من منظمة العفو الدولية. إذ لا يقف التاريخ في صف الدول التي تقوم على القمع. ولهذا تستحق إسرائيل مكانتها كدولةٍ منبوذة.
– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.