قلق كبير يساور الرأي العام الإسباني من طول جمود العلاقات المغربية الإسبانية، وعدم قدرة وزير الخارجية الإسباني خوسيه ألباريس إلى اليوم أن يحقق أي تقدم في هذا الاتجاه، فقد بدأ مشواره الدبلوماسي بغزل كثيف، وجّهه إلى الرباط واصفاً إياها بالشريك الاستراتيجي المميز، ومطالِباً الصحافة الإسبانية بتخفيف الضغط عليه، وعدم إحراجه كل مرة بالسؤال عن وضع العلاقات المغربية الإسبانية، وأن عودة هذه العلاقات إلى طبيعتها يتطلب قدراً من الهدوء، والطبخ الهادئ خلف الكواليس، وتحديد نقاط الخلاف، والاشتغال بحكمة على تسويتها.
وزير خارجية إسبانيا كان دائماً يردد في تصريحاته أنه ينوي بناء علاقات القرن الواحد والعشرين مع المغرب، دون أن يوضح على وجه التحديد ماذا يعني بذلك، وهل هذا الخطاب موجّه إلى نخب الداخل، ليقنعها بأن الدبلوماسية التقليدية لم تعد مجدية في التعاطي مع المغرب، وأن مصالح إسبانيا ستتضرر كثيراً إن لم يتم استشراف جيل جديد من العلاقات يتأسس على رؤية جديدة تناسب التحولات التي عرفتها المنطقة مؤخراً، أم إنه موجه إلى المغرب في سياق الإقناع بجدية إسبانيا في تصحيح خطئها، بعد أن أقدمت على استقبال زعيم البوليساريو على أراضيها ببطاقة هوية وجواز سفر مزورين دون تشاور أو إخبار للرباط؟
صراع النخب في إسبانيا
يبدو أن النخب الأمنية والعسكرية في إسبانيا لم تكن راضية تماماً على مقاربة خوسيه ألباريس، وذلك بسبب تقديرها بعدم تكافؤ الدبلوماسيتين، فبينما تنتهج الرباط مقاربة هجومية، تمعن في حصار إسبانيا، وخنق الثغرين المحتلين اقتصادياً وتجارياً (سبتة ومليلية)، وتوسع تحالفاتها مع نادي الكبار، وتتقوى عسكرياً في المنطقة، احتفظت الدبلوماسية الإسبانية بهدوئها، مؤمّلة أن يقع تحول في الموقف المغربي، وتعود العلاقات إلى طبيعتها.
مؤشران اثنان يبينان أن قدرة خوسيه ألباريس على الحركة تجاه الرباط أضحت مقيدة، وأن محاولته لم تستقبل من داخل النخب الأمنية والعسكرية بالترحاب: المؤشر الأول، وهو في تبني إسبانيا استراتيجية جديدة للأمن القومي، تضع شروطاً جديدة لتأطير العلاقة بين مدريد والرباط، وذلك حين تحدثت عن "التعاون المخلص" واحترام "سبتة ومليلية"، أما المؤشر الثاني فقد كان في تصريح وزير الخارجية عن عدم رضاه عن مستوى التعاون المغربي في مجال محاربة الهجرة.
هذان المؤشران يبينان الهوامش الضيقة التي يناور فيها وزير الخارجية الإسباني، فالنخب العسكرية والأمنية الإسبانية حين تبدي قلقها وانزعاجها الشديد من الأوراق المتعددة التي يستعملها المغرب لإجبار إسبانيا على تغيير موقفها من الصحراء، فهي في الجوهر، تقيد حركة وزير الخارجية الإسباني، وتفسد عليه الحجج التي يدفع بها من أجل تغيير رؤية مدريد التقليدية، ودفعها لتبني رؤية جديدة تناسب القرن الواحد والعشرين.
الرباط، حسبما تشير إلى ذلك دبلوماسيتها، تفهم بشكل جيد معادلة الصراع بين نخب الحكم في إسبانيا، وتدرك ضعف أوراق الاعتماد، التي يمكن أن تستعملها مدريد لإجبار المغرب على إعادة علاقاته مع إسبانيا بنفس البراديغم التقليدي السابق، فلا هي تستطيع اليوم أن تستعمل الورقة العسكرية، كما فعلت غداة تدخلها العسكري في جزيرة ليلى المغربية، ولا هي استطاعت أن تحول المعركة من معركة بين الرباط ومدريد، إلى معركة بين الرباط والاتحاد الأوربي، ولا هي استطاعت أن تلعب مع الجزائر بورقة الغاز لتلوي يد المغرب، وتضطره إلى مراجعة أسلوبه في الهجوم الدبلوماسي.
دبلوماسية المغرب وفهم الموقف
رؤية الرباط، في التعاطي الجديد مع مدريد تأسست على تصور استراتيجي، بدأ التخطيط له مبكراً، وذلك منذ أن تم تشييد الميناء المتوسطي، وتمت بلورة رؤية استراتيجية للامتداد في العمق الإفريقي. فقد عاشت سبتة المحتلة سنوات من الحصار الاقتصادي، واضطر حكامها المحليون إلى إعادة النظر في نموذجها الاقتصادي، وتحويلها إلى وجهة سياحية بدل أن تكون منطقة تجارية، لكن الاستثمارات الضخمة التي قامت بها الرباط، لتحويل الشمال إلى منطقة جذب سياحي لم تبقِ أي خيار للحكومة الإسبانية المركزية، التي كانت تعول على انتعاشة اقتصادية في الثغرين المحتلين.
التطورات الجديدة التي عرفتها الاستراتيجية المغربية أضافت خطوة أخرى ستزيد من خنق الاقتصاد في المدينتين المحتلتين، إذ أقدمت الرباط على خلق منطقة صناعية وتجارية ضخمة في منطقة الفنيدق على حدود سبتة، وتخطط لاستقطاب الأنشطة التجارية التي كانت مزدهرة في سبتة لتوطينها في الفنيدق، وجذب النخب التجارية في سبتة، ومنحها امتيازات من أجل الانتقال بتجارتها إلى الفنيدق، هذا فضلاً على تحويل منطقة تطوان والمضيق إلى منطقة جذب تجاري كبيرة، باستقدام الماركات التجارية العالمية وتوطينها في هذه المنطقة.
وما جعل هذه الاستراتيجية تؤتي ثمارها هو الطريقة التي وظفت بها الرباط جائحة كورونا، إذ قررت إقفال المعابر وتوقيف التهريب، وأوقفت الأسفار البحرية بين المغرب وميناء الجزيرة الخضراء، وحرمت إسبانيا من عائدات المغاربة المقيمين بالخارج العائدين إلى أرض الوطن صيف العام الماضي، فحولت وجهة سفرهم من الجزيرة الخضراء إلى ميناء "سيت" بفرنسا، وحاولت فتح خط آخر مع البرتغال، لمزيد من خنق مدريد وعزلها، لكن سلطات البرتغال، تريثت وخشيت أن تؤدي هذه الخطوة إلى إساءة العلاقة بينها وبين مدريد.
النخب العسكرية والأمنية في إسبانيا تحمل تقديراً مختلفاً عن التقدير الذي تحمله الخارجية الإسبانية، فهي تعتقد أن عين المغرب على تغيير الخريطة الجغرافية واستعادة أراضيه المحتلة إسبانيّاً، وأن سياسته تجاه مدريد، وحصاره الاقتصادي للثغرين المحتلين، لا يفسره أي شيء سوى إصرار المغرب على استعادة سبتة ومليلية، في حين، تحمل الخارجية الإسبانية تقديراً مختلفاً، وهي أن المغرب يضغط بكل الأوراق بما في ذلك ورقة سبتة ومليلية، من أجل إجبار إسبانيا على تغيير موقفها من الصحراء، ولا نية له في المدى القريب في استرجاع الثغرين المحتلين.
بالنسبة للنخب العسكرية والأمنية في إسبانيا، حسبما يبدو من سلوكها، فالثغران المحتلان ورقة حمراء غير جائز اللعب بها، ولذلك فهي تضغط على وزارة الخارجية الإسبانية، لتحريك مفهوم "التعاون المخلص"، وإبعاد ورقة سبتة ومليلية عن الطاولة، وتبني سياسة هجومية، تستعمل ورقة "عدم التعاون في موضوع الهجرة"، وإعادة المحاولة مرة أخرى، لخلق أزمة بين الرباط والاتحاد الأوروبي.
من جهتها، تحاول الخارجية الإسبانية أن تقنع النخب العسكرية والأمنية بطريقتها، وتدفع بحجة تغير الموقف الألماني، ولماذا أعاد المغرب علاقاته مع برلين بهذه السرعة، في حين لا يزال يتلكأ ويرفض عودة العلاقات إلى طبيعتها مع مدريد.
البعض يتصور أن هذا الخطاب يتضمن عتاباً إلى الرباط، لكن في لغة الدبلوماسية الأمر ليس كذلك، فالرباط تحمل رؤيتها وتقديرها إعادة العلاقة مع هذا الطرف، وتجميده مع الطرف الآخر، بحسب ما تحقق لديها من مصالح، فالخارجية الإسبانية، في الجوهر تتوجه بهذه اللغة إلى الداخل، لتقنعه بأن تشبث مدريد برؤيتها التقليدية (علاقات القرن الماضي) سيجعلها تخسر كثيراً من الفرص، وأنها ستبقى في عزلة، لو بقيت تأمل بأن ينضم الاتحاد الأوروبي إليها، ويحمل رؤيتها، ويضغط على المغرب من أجل أن يعيد العلاقات معها.
لعب بأوراق الضغط
من اللافت جداً أن يتم في الأسبوع الماضي تسريب خبر غريب يتعلق بإعادة تسمية المغرب لمناطقه المتاخمة للثغرين، وأن يزيل عن اسمها صفة "الحدودية"، لتخرج بعدها مديرية الأمن الوطني، وتؤكد أنه لم يحدث أي تغيير في تسمية هذه المناطق، وأن الأسماء القائمة حالياً هي المعمول بها.
البعض سارع إلى قراءة الخبر قبل إصدار هذا التوضيح، على أنه خطوة أخرى في اتجاه الضغط على إسبانيا، وجواب على النخب الأمنية والعسكرية الإسبانية، بألا أحد يملي على الرباط شروطه في كيفية إقامة العلاقات، لكن قراءة التوضيح الصادر من مديرية الأمن الوطني، تشير إلى أن الرباط لا تستعجل تحريك مثل هذه الورقة، فقد تضمن عبارة واضحة، لا تعطي أي شرعية للاحتلال الإسباني في الثغرين المحتلين، ولا تعترف بالطابع الحدودي للمناطق المتاخمة للثغرين المحتلين، فالبلاغ يشير إلى أن "التنظيم الإداري للمعابر الحدودية سواء الجوية أو البحرية أو البرية، يميز فقط بين المناطق الأمنية والمفوضيات الجهوية والمفوضيات الخاصة، حسب حجم وأهمية المعبر، ولا يشير إلى طابعها الحدودي".
كثيرون لا سيما من الجانب الإسباني لا يفهمون سر استمرار جمود العلاقات المغربية الإسبانية، ولا يكادون يصدقون قدرة الرباط على اللعب بكل هذه الأوراق وسط انتظارية قاتلة للدبلوماسية الإسبانية، لكن في الجوهر، المشكلة ليست في ملعب الرباط، وإنما هي في ملعب النخب الإسبانية، التي لم تستطع حتى الساعة أن تتوافق على رؤية واحدة، لإعادة العلاقة مع الرباط، فبينما يتطلع وزير الخارجية الإسباني إلى أن تنسج مدريد على منوال برلين، لا تزال النخب العسكرية والأمنية في إسبانيا، متشبثة برؤيتها التقليدية.
هذا التردد بين رؤيتين داخل نخب الحكم في إسبانيا هو الذي يفسر الموقف الذي عبرت عنه الخارجية الإسبانية من النزاع في الصحراء، محيلاً تسوية النزاع إلى مجلس الأمن، ومعولاً على جهود المبعوث الخاص الأممي دي ميستورا لدفع الأطراف للتوصل على حل سياسي، دون أن يجرؤ على الإشارة بكلمة واحدة إلى المقترح المغربي للحكم الذاتي وكونه يمثل أرضية جيدة وواقعية لحل النزاع كما فعلت برلين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.