الحرية في الإسلام وصف فطريّ وخُلق كريم وصفة أساسية في الإنسان، وقد خلقه الله تعالى على هذه الصفة الكريمة، وقدّر له أن يكون حراً دون اختيار سابق منه لهذه الصفة تكريماً له، وتهيئة لحمل المهمة الكبرى، وهي إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وهذه العبودية لا بد لها من حرية من رِق العباد والتحرُّر من عبادة ما سواه.
وهي ضرورة من الضرورات الإنسانية، وفريضة إلهية، وتكليف شرعي، واجب.. وليست مجرد "حق" من الحقوق يجوز لصاحبه أن يتنازل عنه إن هو أراد، لأن انعدامها يترتب عليه فساد الدين، لأن الأصل في العادات الإباحة، والإباحة تعني حرية الفعل أو الترك، والمباح أوسع الأحكام الشرعية وجوداً، وهي حرية مسؤولة، فبها يصبح الإنسان مسؤولاً ومحاسباً على أقواله وأفعاله تجاه مجتمعه وذاته.
وهذه "الحرية لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ويترك ما يريد، فذلك ما يتفق مع طبيعة شهوته، ولا يتفق مع طبائع الوجود كما رُكِّب عليه، ولكنها تعني أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنه مكلف به، وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين. وإيمان الإنسان بأنه مكلف هو أول خطوة في حريته" (علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 248).
ومن النماذج التطبيقية لموقف الإسلام من الحريات:
أولاً: حرية الاعتقاد
فقد كفل الإسلام حرية الاعتقاد للإنسان، فللمرء أن يعتنق ما يشاء من العقائد والأديان، ولكن الله لم يتركه هباءً، بل منحه العقل ليفكر ويتدبّر في الكون وفي نفسه من آيات، ولطف الله به، وأرسل له الرسل لهدايته، وليعلم بعد ذلك أنه سيحاسب على كل ما فعل.
فنرى أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد كفلا حرية العقيدة، فقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 1-6). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله).
بل جاء الإسلام ليحرر البشرية من كل رق وذل وخضوع لغير الله، وجاء الرسل عليهم السلام لرفع الاستعباد عن البشرية للملوك والزعماء مثل فرعون وغيره.
وقد حرَّر الإسلام عقل الإنسان من الخرافات والأوهام والظنون الباطلة، واتباع الظن كما في قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36)، وقوله: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (يونس: 36). ومن هنا فإن الإسلام وهو في أوج قوته وسلطانه لم يُكره أحداً على اعتناقه؛ لأن حرية الاعتقاد من أسمى ما تدعو إليه شريعة الإسلام، ولأن الفرد لا بد أن يملأ الإيمان واليقين قلبه بحب هذه الرسالة والإخلاص لها، وكفل الإسلام لمتّبعي الديانات الأخرى حرية ممارسة شعائرهم بحرية وأمن دون إرهاب أو تخويف، سواء من الأفراد أو الحكام.
ثانياً: حرية الاختيار والإرادة
لقد خلق الله سبحانه الإنسان حراً مختاراً لفعله، وهو مسؤول عنه، ولهذا تترتب الآثار الجزائية في الدنيا والآخرة على فعله لتمام مسؤوليته عنه، وحرية الإنسان في الاختيار ضرورة فطرية يشعر بها الإنسان ولا يستطيع إنكارها، ونفس تكليف الله له أمراً ونهياً يدل على أنه مختار، وإلا لم يبقَ للتكليف معني لو كان مجبراً.
إن تكليف الإنسان، وجعله مسؤولاً عن أعماله أمام الله، متحملاً جزاءها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كل ذلك يقول بحرية إرادة الإنسان للعمل، فالإنسان لديه الإرادة التي تكفي لقيامه بعمل ما دون غيره، هذه الإرادة جعلها الله له من ضرورات حرية التكليف، إذ لا تكليف بغير إرادة، وإلا إذا كان هناك تكليف بغير إرادة فإن الناس لا تملك من أمرها شيئاً، فمن كتب الله له الجنة فإنه يعمل الخير، وليس بيده أن يتركه، ولا يستطيع أن يرتكب المعاصي، ومن كتب الله له النار فهو يرتكب المعاصي والآثام، لا يستطيع أن يُقلع عنها، وليس له أن يفعل الخير. فإذا كان هذا صحيحاً فما الحكمة من الخلق، ووجود الثواب والعقاب؟!
ولكن الحق الذي نؤمن به أن للإنسان إرادة، توفر له القدرة على القيام بعمل ما، واختيار الطريق التي يرغب في سلوكها. إنها إرادة مخلوقة، خلقها الله كما خلق الإنسان، وأودعها نفسه، وجعل العقل والمصلحة والدين والشريعة قبل ذلك، أطر تتصرف في محيطها هذه الإرادة حسب ما يهوى الإنسان.
لقد رفع الإسلام قيمة الحرية لدرجة أنه اشترط أن يكون العقل الذي يصل إلى الإيمان بالله وجوداً وألوهية عقلاً حراً، بمعنى أنه غير مكرَه وليس واقعاً تحت هيمنة تلغي قدرته على الاختيار، وبذلك أصبح مبدأ من مبادئ دخول الإسلام.
ثالثاً: الحرية السياسية
السياسة استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، وتدبير أمورهم، فخيارات الإنسان مكفولة في الإسلام في مختلف المجالات بما فيها الخيارات السياسية، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118).
ولعل أبرز ما يدل على الحرية السياسية في الإسلام، مبدأ الشورى الذي تم العمل به في نقل السلطة منذ عهد الخلفاء الراشدين، فلم تورّث الخلافة لابن أو لغيره، بل كانت خاضعة للشورى، وأخذ رأي أهل الحل والعقد، والذي من الممكن أن يُسمى اليوم هيئة كبار العلماء.
والحرية السياسية هي أساس كل الحريات، لأن السلطة حين تكون مستبدة تتحكم بحرية الناس كما تهوى وتعبدهم لها، أما حينما تكون الحرية السياسية قائمة على الشورى، لا على الاستبداد، فهذه نقطة التحول الكبرى التي تنبع منها كل التحولات في المجتمع والدولة والفرد.
والحاكم في الإسلام ليس معصوماً ولا إلهاً مستعلياً، كما نرى الآن، للأسف، في بعض الدول العربية والإسلامية، إنما هو وكيل عن الأمة في سياستها بما يحقق مصالحها ويدرأ عنها المفاسد، فإن أقام العدل أُقر على حكمه، وكان له عظيم الأجر في الآخرة. فالمسلم حر في اختيار حاكمه، ومراقبة أدائه، ومحاسبته ونقده، وإن هو خالف، وضيّع الأمانة جاز عزله، ويعاقب على قدر مخالفته. وهذا ما نصّت عليه بعض الدساتير في العصر الحديث.
كما يحق للإنسان المشاركة في القيام بأعباء السلطة، ووظائفها الكبرى، لأن السلطة حق مشترك بين رعايا الدولة، وليست حكراً على أحد، أو وقفاً على فئة دون أخرى.
وقد جعل الإسلام من أعظم الذنوب كذب الأئمة والملوك على رعيتهم، قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم". وذكر منهم "ملكاً كذّاباً".
فالحكم في الإسلام على إقامة العدل بإعطاء الحقوق مثل: التعليم والملكية والتنقل والعمل، وضمان حاجيات الإنسان، والمحافظة عليه ومساعدته وقسمة الثروات العامة بالسويّة، ومنع انتهاك حرمات الناس وأعراضهم وأموالهم، وغيرها من الحقوق الكثيرة، واختيار الحاكم بالرضا وعدم الإكراه، وأن يكون مبدأ الشورى ملزماً للحاكم، وللشعب أن يراقب الحاكم ويقومه.
رابعاً: حرية الرأي والتعبير
يعد التعبير عن الرأي حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان في الإسلام؛ ذلك أن التعبير عن الرأي مرتبط تمام الارتباط بحرية الإنسان في تفكيره، والتفكير في طبيعته نشاط عقلي والقرآن الكريم يعظّم من شأن العقل الذي هو وسيلة التفكير، وهو من الواجبات الشرعية، لأن كثيراً من الواجبات الشرعية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء والفتيا والشورى والنصيحة وغيرها لا تتم إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولكن هذه الحرية كسائر الحريات ليست مطلقة منفصلة دون ضوابط وحدود، بل هي حرية مضبوطة بالشرع، وما يدل عليه من مصالح العباد، ودرء المفاسد عنهم، لأن الحرية المطلقة بلا معايير توقع في التناقض والكذب، وهو يخالف العقل والفطرة كذلك.
ولا يجوز استعمال حرية الرأي أداة للإيذاء والإضرار بالآخرين، أو إثارة الفتنة، أو الطعن في الدين وتسفيه أحكامه، أو الدعوة للخروج عليه ونحو ذلك؛ لأن من حق الآخرين عدم الإضرار بهم، وحق الشرع أن تُحترم أحكامه.
وليس من الإسلام تكميم الأفواه وحبس الرأي، وقصف الأقلام؛ لأنه لا إكراه في الدين أصلاً، فمن باب أولى ألّا يكون هناك إكراه في الرأي، فإبداء الرأي النافع حق مكفول للأفراد والمؤسسات طالما يحقق المصلحة الخاصة والعامة.
خامساً: حرية التملك
الأصل في الإسلام أنه يضمن حرية الملكية الفردية، وحرية التعامل والتعاقد إلا ما دلّ الدليل على منعه، وهي الأمور التي يتوفر فيها الغش أو التدليس أو إلحاق الضرر بالآخرين، وهذا ما تقبله الفطرة والعقل والأعراف السوية فضلاً عن الدين.
والإسلام في ذلك ينتهج المنهج الوسطى، فهو يقر حق التملك الفردي على أن يبقى منسجماً مع مصلحة الجماعة، محققاً لأهدافها، متفقاً مع نظرة الإسلام الاقتصادية التي تقوم على تحقيق مصلحة الفرد والمجموع، وهكذا نستطيع القول إن الملكية الخاصة في الإسلام تؤدى وظيفة اجتماعية.
وأعطى الإسلام للإنسان الحق في التمتع بممتلكاته الشخصية، إلى جانب حقه المشترك في التمتع بالممتلكات العامة، مثل المساجد والمستشفيات العامة، والطرق، ومختلف ألوان المنافع العامة الموجودة، ولم يُفرّق الإسلام بين رجل أو امرأة في التمتع بالملكيات الشخصية، وهو ما جاء ذكره في النص القرآني بشكل صحيح، يقول الله عز وجل: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) (البقرة: 228).
ووضع الإسلام القواعد والأطر لهذه الملكية، فلا غش، ولا ربا، ولا تغرير، ولا استغلال حاجة الناس، ولا احتكار لقوت المسلمين، فقد قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر طعاماً على المسلمين ضربه الله بالإفلاس أو الجذام"، كذلك ينبغي عليه تملكه بطريق مشروعة، وأن يكون وسطياً فلا ينفق بإسراف، ولا يقبض يديه بالبخل، ويجب عليه إخراج زكاة ماله، الذي هو حق الله فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.