عُرفت الدبلوماسية الجزائرية بالتحرك والمبادرة منذ بداية الستينيات، تاريخ الاستقلال وإعلان الجمهورية الجزائرية وانتخاب أحمد بن بلة أول رئيس جمهورية جزائري في 15 سبتمبر 1963.
ازدهرت الدبلوماسية الجزائرية في عهد الرئيس هواري بومدين، حيث انخرطت في لعب أدوار متقدمة إقليمياً وإفريقياً وعربياً، وقد ظهرت بصمة الجزائر في حرب أكتوبر، ومن خلال نصرة القضية الفلسطينية أممياً وتمكين الراحل عرفات من الحديث باسم فلسطين في منبر الأمم المتحدة سنة 1974، وعقد مؤتمر إعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس سنة 1988، وأيضاً من خلال المساهمة في إنهاء الانقسام بين الفصائل الفلسطينية وسط الثمانينيات باحتضان المجلس الوطني الفلسطيني تحت شعار دورة المصالحة الوطنية سنة 1987.
كما لعبت الجزائر أدواراً دبلوماسية إقليمية ودولية أخرى، في جنوب إفريقيا لإنهاء نظام الأبرتهايد (العنصرية)، وكذلك في إنهاء النزاع بين العراق وإيران المتعلق بترسيم الحدود خلال مؤتمر عدم الانحياز المنعقد في الجزائر سنة 1973.
ورغم تجربته كوزير خارجية لسنوات طويلة، اختار الرئيس بوتفليقة اعتماد سياسة خارجية أساسها الحياد ورد الفعل لأسباب عدة أهمها المشاكل الداخلية التي عرفتها البلاد، بالإضافة إلى تركيز اهتمامه على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وقد زاد استفحالُ مرض الرئيس الراحل بوتفليقة منذ سنة 2014 من حالة الركود وانكفاء الدبلوماسية الجزائرية.
محاولة للعودة
يحاول الرئيس عبد المجيد تبون منذ انتخابه سنة 2019، إعادة الدبلوماسية الجزائرية إلى الواجهة والفاعلية من جديد وتظهر هذه المحاولات من خلال إعادة رجل الخبرة الدبلوماسية الطويلة رمضان العمامرة وزيراً للخارجية، الذي افتتح لقاءاته التوجيهية مع كوادر وزارته بدعوتهم نحو "ضرورة المضي قدماً في طريق تعزيز الدور الدبلوماسي الجزائري سواء ما تعلق بتسوية النزاعات بالطرق السلمية أو مواجهة المخططات التي تستهدف البلاد".
وساهمت تحركات الرئيس تبون الدبلوماسية سواء بزيارات قام بها أو باستقبال رؤساء وبعثات من هذه الفاعلية، حيث زار تونس كأول زيارة لرئيس جمهورية جزائري لتونس منذ 34 سنة، وزار مصر بعد 14 سنة من غياب الرئاسة الجزائرية عن القاهرة، واستقبل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، كما استقبل رئيس الجمهورية الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، بالإضافة الى استقباله الرئيس الإيطالي.
وتُرجم هذا التغير في سلوك الدبلوماسية الجزائرية من خلال محاولات لعب دور للصلح في الأزمة الخليجية، بالإضافة إلى مبادرة الوساطة في أزمة سد النهضة، ومبادرتها للحل في ليبيا، بالإضافة إلى مبادرتها الأخيرة حول مؤتمر المصالحة بين الفصائل الفلسطينية.
إن للحركية المستجدة للدبلوماسية الجزائرية دوافع عديدة أهمها مواجهة الأزمة مع المغرب وإعادة التموقع عربياً وإفريقياً.
مواجهة الأزمة مع المغرب
تزايدت الأزمة بين الجزائر والمغرب [الحدود مغلقة بينهما منذ 1994] لتشهد ذروتها في أغسطس 2021 تاريخ إعلان العمامرة قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب وما تلاه من قرار جزائري بعدم تمديد اتفاقية نقل الغاز لإسبانيا عبر الأراضي المغربية، بسبب ما سمّاها "سياسات المغرب العدائية تجاه الجزائر"، واستشهد العمامرة بما سمّاه "الدعم المغربي لواحدة من الجماعات" التي تسعى للاستقلال في منطقة القبائل، كما قال إن "الرباط تجسست على مسؤولين جزائريين، وفشلت في الوفاء بالالتزامات الثنائية بما في ذلك ما يتعلق بالصحراء الغربية".
زاد استقبال المغرب لوزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس، وإبرام الاتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي في مجالات الاستخبارات والصناعات الدفاعية والأمن السيبراني، من حدة هذه الأزمة، حيث اعتبرت الجزائر الزيارة وما تبعها تهديداً لأمنها ومصالحها.
وتحركت إثر ذلك الدبلوماسية الجزائرية في إطار تحصين حدودها، لتكون زيارة تونس ثم استقبال الرئيس الموريتاني وما نتج عنها من اتفاقيات تعزز الحضور الجزائري في المنطقة المغاربية في هذا الإطار.
تأتي المبادرة الجزائرية لتحقيق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية في هذا الاتجاه أيضاً، حيث فهمها البعض رداً على توجه السلطة المغربية نحو التطبيع، وفهمها آخرون بأنها رسالة لتل أبيب مفادها أنه بينما تدعمه المغرب، فالجزائر قادرة على تهديد أمنه، عبر دعم الفصائل الفلسطينية والعمل على تحقيق وحدتها.
إنجاح القمة واسترجاع المكانة العربية
من دوافع التحركات الدبلوماسية الجزائرية المكثفة في الأشهر الماضية تجاه مختلف أقطار العالم العربي، رغبتها في إنجاح القمة العربية التي كان من المفترض أن تنتظم في الجزائر والتي تأجلت حسب تصريحات المسؤولين في جامعة الدول العربية بسبب جائحة كورونا.
وفي الحقيقة لا تعكس هذه التصريحات الأسباب الحقيقية وراء التأجيل، حيث يعد مشاركة سوريا في هذه القمة بدعم من الجزائر، الذي صرح وزير خارجيتها سابقاً: "حان وقت عودة سوريا إلى الجامعة العربية" سبباً أساسياً لهذا التأجيل، خاصة في ظل رفض السعودية وقطر لهذه الخطوة ويبدو أن زيارة العمامرة لقطر ولقائه بالأمير تميم تأتي في هذا الاتجاه.
أيضاً نية الجزائر إدراج ملف التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي على جدول أعمال القمة من الملفات الأخرى المتسببة في التأجيل، خاصةً في ظل الرفض الصريح لها من قبل الإمارات العربية المتحدة، وهو ما يفسر تحول العمامرة للإمارات ولقائه بنظيره عبد الله بن زايد.
وكذلك الخلاف الخفي بين مصر والجزائر حول إدارة ملف المصالحة الفلسطينية، وأشكال الحل في ليبيا بالإضافة إلى طريقة الخروج من الأزمة التونسية ساهمت في هذا التأجيل، وهو ما يفسر زيارة عبد المجيد تبون المفاجئة للقاهرة.
ومن جهة أخرى، فإن اللقاء الذي جمع العمامرة بجميع سفراء الدول العربية المعتمدين في الجزائر يوم 23 يناير المنقضي دليل جديد على إصرار الجزائر على إنجاح القمة العربية.
أهداف سياسية وأمنية واقتصادية وراء التموقع إفريقيّاً
يبدو أنه من أهم الأسباب التي جعلت تبون يعول على رمضان العمامرة رئيساً للدبلوماسية الجزائرية هو خبرة الرجل الطويلة في إفريقيا، حيث عمل لسنوات سفيراً في عدة دول إفريقية، وكمفوض للسلم والأمن بالاتحاد الإفريقي، بالإضافة إلى مهام أخرى تقلدها هناك.
يراهن تبون كثيراً على العمامرة وما يمتلكه من علاقات قوية في القارة السمراء حتى تتمكن الجزائر من استرجاع ثقلها السياسي فيها والاستفادة من الفرص الاقتصادية التي توفرها.
ويكمن الهدف من استرجاع الثقل السياسي في إفريقيا إلى الحد من التوغل الإسرائيلي وما يمثله من تهديدات في المنطقة، وفي هذا الاتجاه تحركت الجزائر لرفض إعلان إسرائيل كعضو مراقب في الاتحاد الإفريقي.
أيضاً، وبالإضافة إلى الوضع الإقليمي المنفلت الذي تعرفه مختلف الحدود البرية الجزائرية مع المغرب ومالي وليبيا وتونس، فرضت التحديات الأمنية التي تعرفها إفريقيا، في ظل توالي الانقلابات وتغلغل الجماعات المتطرفة فيها وتنامي الصراعات في بؤر متعددة وسط القارة، على الجزائر إيلاء العمق الإفريقي اهتمامات أكبر، وهو ما برز خلال استضافتها الدورة الثامنة لمجلس السلم والأمن الإفريقي في الجزائر، بالإضافة إلى تكثيف اتصالات العمامرة مع نظرائه في القارة على غرار اتصاله بنظيره الموريتاني حول أوضاع مالي.
وتتوفر في القارة الإفريقية فرص استثمارية كبرى، لم تراهن عليها الجزائر كما يجب رغم علاقاتها التاريخية مع مختلف دول القارة، وذلك عكس ما تقوم به دول منافِسة أخرى مثل فرنسا والصين والمغرب والاحتلال الإسرائيلي.
كما تحاول الدبلوماسية الجزائرية التدارك وتفعيل دورها الاقتصادي، حيث أعلن عبد المجيد تبون إنشاء وكالة للتعاون الدولي لأجل التضامن والتنمية، ذات بعد إفريقي، كما صادقت الجزائر على الاتفاقية المؤسسة للمنطقة الإفريقية للتبادل التجاري الحر.
محاولة لليقظة والتدارك
من الواضح إذاً أن الجزائر قد انخرطت في مسار جديد من السلوك الدبلوماسي غيرت بموجبه سياستها الخارجية من الحياد والانكفاء إلى المبادرة والفاعلية، ويأتي هذا التغيير في إطار الوقاية من التحديات والمخاطر التي تهدد أمنها واستقرارها، ولكن أيضاً من أجل استعادة دور إقليمي وعربي يليق بتاريخها وحجمها الجغراسياسي، ويمكنها من فرص اقتصادية تحتاجها البلاد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.