لا يمكن أن تكون الحماسة التي يتحدث بها قائد خط الجمبري في مزارع أسماك الجيش المصري في شمال البلاد عن مهام عمله أمام عبد الفتاح السيسي بوازع اقتصادي أو مجرد سمات شخصية للرجل، فقد كان يتحدث وكأنه في ساحة حرب ويؤدي عملاً عسكرياً، وهو ما يكشف عن أبعاد جديدة في العقيدة القتالية للجيش المصري التي بُني عليها هذا العمل الاقتصادي "العسكري".
صدمة ثورة 25 يناير
كان خروج المصريين إلى الشوارع في يناير/كانون الثاني أمراً متوقعاً وكانت مُعَدة له الخطط اللازمة في المؤسسة العسكرية ولكن في الوقت نفسه لم يكن في التصور أن يكون خروجهم بالكيفية التي جاء عليها، عقب الثورة واجه الجيش المصري ثورة توقعات كبيرة للشعب المصري تمثلت في مطالبه الاقتصادية، خصوصاً أن الجيش لم يتعامل مع الثورة على أنها فرصة جديدة لإصلاح الأوضاع في ذلك الوقت وإنما رآها تهديداً أمنياً جديداً على المستوى الداخلي.
وكشفت الثورة عن تبني الجيش المصري لتعريف جديد للأمن القومي، فبعد أن كانت المؤسسة العسكرية منذ تأسيسها ترى الأمن القومي المصري في إطار تهديدات الخارج فقط، ولكن بعد الثورة بات عليها أن تتعامل مع مشكلات الواقع الداخلية بجانبيها السياسي والاقتصادي، وتهتم هذه المقالة باستكشاف مدى هذا التغير خصوصاً أنه لا توجد له وثيقة مكتوبة "معلنة"، إلا أن الواقع وتطوراته، وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية داخل الدولة المصرية وبين مؤسساتها المختلفة تلقي بعض الأضواء على هذا التغير.
تتبنى هذه المقالة فرضية محورية تتمثل في أن استقلال القوات المسلحة الاقتصادي يوفر لها جانباً مهماً من مواردها الاقتصادية، إلا أنه كذلك يحفظ لها قدرتها على اتخاذ القرار السياسي والعسكري المستقل حتى عن بعض المؤسسات السيادية المصرية، وعلى الرغم من أن البعض قد يرى عدم منطقية هذه الفرضية واستحالة تنفيذها في الواقع، ولكن بالمراقبة الدقيقة لسلوك القوات المسلحة المصرية يجد أن هذه الفرضية هي التي تحكم الواقع السياسي المصري، بل إن تطورات الأحداث أثبتت صحة هذه الفرضية.
الأمن القومي التنموي
فيما يبدو أن القوات المسلحة المصرية طرأ على عقيدتها تغيرٌ جوهري تمثل في تبنيها تعريفاً للأمن القومي يركز على الجانب التنموي، والذي يقصد به أن يكون للقوات المسلحة المصرية الإمكانات والقدرات الخاصة المستقلة التي تتيح لها امتلاك قرارها سلماً وحرباً، داخلياً وخارجياً؛ مستهدفة من جراء ذلك ضمان عدم توريط القوات المسلحة في أي قرار يترتب عليه تنفيذ مهمات في الداخل أو الخارج، ومن مثل ذلك إحجام مصر عن المشاركة في التحالف الذي قادته المملكة العربية السعودية للتدخل في اليمن، على الرغم من الوعد الذي قطعه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على نفسه تأكيداً على دعمه للسعودية ودول الخليج بقوله "مسافة السكة" (أي إن استجابة مصر لأي طلب خليجي ستكون فورية).
ومع ذلك فقد كان للقوات المسلحة المصرية رأيٌ آخر وقد هيمن على قرارها الخبرة المصرية في اليمن منتصف القرن الماضي، الأمر الذي فضلت معه المشاركة بصورة رمزية وفي المناطق الحيوية التي تهم مصر في المقام الأول مثل "البحر الأحمر" وقد ترتب على ذلك جفوة بين مصر والسعودية، هناك مثال آخر على عدم التكافؤ بين تصريحات السيسي وأفعال القوات المسلحة المصرية يتمثل في ليبيا؛ فعلى الرغم من الحشد السياسي والإعلامي الذي صنعه السيسي حول ليبيا وأهميتها لمصر وتصريحاته حول الخط الأحمر، إلا أن التدخل المصري في ليبيا تتحكم فيه القوات المسلحة بمفردها وما يؤكد على ذلك أن الخط الأحمر الذي رسمه السيسي في ليبيا تم اختراقه أكثر من مرة.
استقلال القوات المسلحة المصرية
من جانب آخر بات الجيش المصري يمتلك قدرة مالية منفصلة بالكامل عن الدولة المصرية، ويحرص قادة الجيش على ترسيخ هذه الاستقلالية في نفوس أبنائه من خلال التصريحات بشأن هذه القدرة تحصيلاً وإنفاقاً.
فقد صرح اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشئون المالية وعضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفقاً لجريدة الشروق الصادرة بتاريخ 27 مارس/آذار 2012، آنَذاك، بأن القدرة المالية للجيش المصري هي بعرق أبنائه "هذا المال/العرق يؤمن لنا القدرة على حماية مقدرات أمننا القومي".
وتتأكد لنا هذه الاستقلالية من خلال القروض والتبرعات التي تقدمها القوات المسلحة للدولة المصرية، فقد صرح اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع في ندوة نظمها المجلس الأعلى للقوات المسلحة حول مستقبل الاقتصاد المصري في ديسمبر/كانون الأول 2011، بأن "القوات المسلحة أقرضت البنك المركزي مليار دولار من عائد مشروعاتها الإنتاجية"، كما أعلن الجيش المصري في يونيو/حزيران 2014 عن التبرع لصندوق تحيا مصر بمليار جنيه، وفي أبريل/نيسان 2020 تبرعت القوات المسلحة للصندوق أيضاً بمبلغ 100 مليون جنيه.
تكشف هذه السلوكيات عن رؤية المؤسسة العسكرية لدورها وتأثيرها ومكانتها في الدولة المصرية، وطبيعة العلاقات المدنية العسكرية فيها، فقد حرصت المؤسسة العسكرية على أن تكون سيطرتها والتي بدأت منذ عام 1952 شاملة لمقدرات الوطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل ووصية على أراضيه ومالكه لها.
ونجحت في أن تُغيب أي نقاش مجتمعي عنها، وباتت تعمل في الخفاء، ولا تتسامح مع أي أحد يجعلها موضوعاً للنقاش في الشارع السياسي أو أن تكون محط اهتمام أي فئة من فئات المجتمع، واتبعت في ذلك العديد من الآليات، ما بين المنع والمنح، كما لم تغفل الآليات السرية والخفية والتي كان من نتائجها تغلغلها بين النخبة المصرية وصناعة قيادات للرأي العام المصري يعملون لصالحها بشكل غير معلن، ومؤخراً لم تكتفِ بذلك، بل سعت إلى حفظ هذه المساحة دستورياً.
دسترة وضع القوات المسلحة المصرية
عقب ثورة يناير وجدت القوات المسلحة المصرية نفسها مجبرة على أن تكون مشاركتها في الحياة السياسية المصرية معلنة أمام المجتمع المصري بعدما كانت قد حافظت على وضع معين لمدة ستين عاماً؛ ومن ثم عملت على أن تُدَستِر وضعها وتحميه بكل ما أمكن لها، فقد جاء دستور 2014 وتعديلاته عام 2019 لتكشف عن هذه الوصاية التي أصبحت واقعاً ملموساً ومعترفاً به، فقد نصت المادة (200) بعد التعديل على أن "القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد، والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية".
وجه آخر للهيمنة العسكرية على المجتمع المصري
ورغم أن الهيمنة العسكرية على مقدرات الوطن في مصر لم تعد خافية على أحد سواء في الواقع العملي والفعلي أو الدساتير والقوانين الحاكمة، إضافة إلى خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي (الرئيس الحالي لمصر الذي وصل إلى كرسي الرئاسة من بوابة وزارة الدفاع) الذي يحرص دائماً على ربط نفسه بالجيش بصورة لا لبس فيها، ويصور أن أي ثورة مستقبلية لن تكون ضده بمفرده ولكنها ستكون ضد الجيش أيضاً، بالإضافة إلى إصراره على تحميل الجيش كل سياساته، فالجيش في ظل رئاسة السيسي فاعل في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية المصرية.
ومع ذلك ما يزال الوعي المصري النخبوي والشعبي مفقوداً حول طبيعة العلاقات المدنية العسكرية، وهو الأمر الذي لم يعد مفهوماً بعد ثورة 25 يناير وما كشفته عن هذا الملف، فما تزال الشعارات السلطوية التي تنتجها المؤسسة العسكرية رائجة وإن كان الاختلاف فقط في المفردات، فبعد شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" التي كانت تسيطر على نظام عبد الناصر تحول إلى عدة نسخ أخرى وصولاً إلى "الحرب على الإرهاب".
نموذج عملي
نشرت الجريدة الرسمية قرار وزير الدفاع والإنتاج الحربي الفريق أول محمد زكي، الذي حمل رقـم 256 لسنة 2021، ويقضي بتعديل بعض أحكام النظام الأساسي للجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء، ترتب عليه إخضاع "الجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء" لسلطته بدلاً من رئيس مجلس الوزراء.
ونصت التعديلات على أن تستبدل عبارة "وزير الدفاع" بعبارة "رئيس مجلس الـوزراء" أينما وردت في النظـام الأساسي للجهاز الوطني لتنمية شبه جزيرة سيناء، واشترط القرار موافقة وزارتي الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات العامة على قرارات مجلس إدارة الجهاز، المسؤول عن منح حق تملك الأراضي أو الانتفاع بها للمصريين والأجانب، فضلاً على إدارة واستثمار الأراضي في سيناء.
وتضيف التعديلات مادة جديدة للنظام الأساسي تنص على أن يعدّ مجلس الإدارة الهيكل الإداري والفني للجهاز علـى النحـو الذي يضمن توصيفاً وظيفياً للعاملين به يتفق مع النظم المعمول بها بالقوات المسلحة، وبالشكل الذي يسمح بمدّه بالكوادر المطلوبة من جهات الاختصاص بوزارة الدفاع.
مثل هذا النموذج من القرارات يكشف إلى أي مدى تسكن القوات المسلحة المصرية نفسها في سلك وهيكلية السلطة في مصر، فوزير الدفاع هو الذي أصدر القرار بنفسه ولنفسه وكأنه الحاكم المطلق.
مصر إلى أين؟
إن قيادة أكثر من 100 مليون إنسان على أساس تقديم الخدمات الأساسية من أمن واستقرار هش وخدمات أساسية بسيطة مقابل الهيمنة على مقدرات البلاد وثرواتها ومستقبلها هي مقامرة شديدة الخطورة تضع المؤسسة العسكرية والشعب المصري في مواجهة متصاعدة غير مبررة.
كما أن مسألة الوعي بأهمية استعادة السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية وعودة هذه المؤسسة للقيام بدورها الحقيقي والانسحاب من المجالات التي لا تخصها والتي باتت تحتكرها يجب أن يكون مطلباً لأفراد هذه المؤسسة في المقام الأول، فصناعة وعي بعلاقات مدنية عسكرية صحيحة في المجتمع سيكون لمصلحة المؤسسة العسكرية ولمصلحة الدولة المصرية ومكانتها واستقرارها وكيانها، فاستمرار الوضع الحالي الغائم في هذا الملف بمثابة مستقبل مظلم على كافة المستويات.
ولن يكتب للدولة المصرية أن تخرج من طور الاستبداد والفساد إلا باستراتيجية قومية توقف التغول العسكري وتمكن السيطرة المدنية من خلال إطلاق حوار سياسي واقتصادي واجتماعي وحقوقي، فحوار حقيقي لن يكون فعالاً إلا عقب إجراء انتخابات حرة تخضع لرقابة دولية حكومية وغير حكومية، وأن تكون المؤسسة العسكرية مؤمنة أكثر من أي مؤسسة أخرى أن مثل هذا الطريق الديمقراطي المدني هو المستقبل الحقيقي الأكثر أماناً للحفاظ على كيان الدولة المصرية، إلا أن هذا الأمر يحتاج إلى إدراك ووعي من كافة المصريين وقواهم السياسية والمجتمعية، لأن معركة مصر المدنية هي معركة النفس الطويل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.