في كل ذكرى لثورة يناير المغدورة في مصر، تركز الصحافة العالمية على الحقوق والحريات، على اعتبار أن الثورة التي أطاحت بنظام مبارك قامت في الأساس ضد انتهاكات الشرطة واعتراضاً على الأوضاع الحقوقية في البلاد، حتى إنه لم يكن مطروحاً أبداً إسقاط النظام.
في السنوات اللاحقة تردت أوضاع حقوق الإنسان بشكل مزرٍ، بحيث لا يمكن أن تقارن بسنوات حكم مبارك، التي شهدت انتهاكات فردية واسعة تضاهي حرية التعبير التي كان مسموحاً بها.
الغارديان استبقت ليلة الثورة، ونشرت تسجيلاً مسرباً، يوثق التعذيب الجماعي داخل أحد أقسام الشرطة.
وظهر في شريط الفيديو المرفق بالتقرير وشريط آخر امتنعت الصحيفة عن نشره الشرطة وهي تعذب محتجزين في مركز شرطة السلام بالقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وبدا أن الضباط يمارسون العنف والسادية ضد المحتجزين، وهم على ثقة من الإفلات التام من العقاب، وظهر في مقطع فيديو نزيلان عاريان معلقان في أوضاع صعبة للغاية، من أذرعهما التي تم تثبيتها خلف ظهورهما منذ ساعات، وقال آخرون إنهم ينتظرون دورهم. واصطف السجناء في مقطع آخر في زنزانة مكتظة لعرض إصاباتهم وقالوا: "إنهم يضربوننا بالعصي".
واستغاث المحتجزون الذين ظهروا في التسجيلات المسربة بالرئيس السيسي، الذي كان قبل أقل من 48 ساعة يبكي بكاء مراً وهو يتذكر ضحايا رجال الشرطة، ويحتفل بعيدهم بحفاوة، والتاريخ بالمناسبة هو ذكرى سقوطهم وانهيارهم أيضاً، ولولا ذلك ما نجحت ثورة 25 يناير آنذاك من الأساس، وما وقفنا على ما حققته من نجاحات وما خلفته من مآسٍ اليوم.
وكان خطأ ثورة يناير الأول أنها جمعت الإشراف على الأجهزة الأمنية والمعلوماتية في كل من الجيش والشرطة ووضعته في حجر رجل واحد، كان مجهولاً حينما برز في ميدان التحرير كرأس حربة ضدها.
منحته كل ذلك بكرم بالغ وكأنه كان ثورياً.. وها هي تمر سنواتها العجاف وكل من قام بها إما قتل أو سُجن أو هُجر، بينما ابتسم الحظ للرجل ومنحه عائد كل الدم والتضحيات مزايا وسلطات استخدمها في القمع والاستبداد وأسس بها نظاماً بوليسياً غير مسبوق، لا يمكن أن تخفي معالمه ابتساماته ودموعه.
أزمة هذا العهد الأبرز أنه حول الانتهاكات من المستوى الفردي إلى الجماعي، ليحكم بالرعب والخوف مسيرة أعوام، هي حالة مقصودة، لم يبحث عنها سلفه الذي بالغ في الحفاظ على صورته أمام العالم الخارجي، إذا ما قورن بخلفه.
شهادات السجون التي وثقناها مراراً تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن التسجيل صحيح، وإن نفى مصدر أمني صحته في وقت لاحق.
فقد قال شبابٌ خرجوا في الثورة بحماس ونجوا من الموت الذي حاصرهم مراراً إن الأيام دارت عليهم ووجدوا أنفسهم بعدها بـ3 سنوات فقط، عراة تماماً مقيدين من الأيدي والأرجل، وبين أرجلهم مقعد، وتحت أجسادهم مرتبة غارقة في المياه، حيث تعرضوا للصعق حتى أوشكوا على الموت. كانوا يطمحون في وضع أفضل، وتلمس كرامة لم تعرفها عائلاتهم لكنهم لم يستمتعوا بها طويلاً، وفقدوها ومن ثم نسوها.
في ذكراها أصبحت ديستوبيا مصر وواقعها المرير حديث ودرس العالم، فيه أثبتت ديكتاتورية الجنرال السابق عبد الفتاح السيسي، التي أعقبت مرسي، من جميع النواحي تقريباً أنها أقسى وأكثر فتكاً من أي شيء حدث من قبل، بحسب فايس. يؤسسون عالم الرعب هنا لمن عجزوا عن الفرار والهجرة، ثم يركضون إلى العاصمة الإدارية كملاذ آمن، ويقصون شريط مصر الجديدة التي بشر بها السيسي في الأمم المتحدة عام 2014.
"في ذكرى ثورة يناير احتفل من احتفل بعيد الشرطة، بينما لم تعد هناك أحاديث عن الثورة أو أهدافها -إلا نادراً- وأي محاولة شعبية للعودة لإحياء ذكريات الماضي تصفعها اليد الثقيلة للدولة العسكرية التي رسخت نفسها حاكماً للبلاد في أعقاب الثورة، الثورة الضائعة"، كما تقول الجارديان.
ذهبت الثورة ولم يبقَ من أثرها إلا 60 ألف معتقل، وآلاف القتلى والمفقودين في أكبر عملية إخفاء قسري في البلاد، فهذا حاضر يكتب بالقهر، حتى تنسى الثورة.
كما أزالت حكومة السيسي الاستبدادية بشكل متزايد كل ما يذكّر بالثورة، ومحت الغرافيتي السياسي في وسط القاهرة وأعادت كتابة الكتب المدرسية، والتاريخ. وفى ميدان التحرير نصبت الحكومة مسلة وأربعة تماثيل لأبي الهول، كآثار لماضي مصر الفرعوني القديم، على حساب تاريخها الحديث والاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بالاستبداد، وكتبت البداية لعهد من الحرية لم يمكث طويلاً.
في ذكرى ثورة يناير اختفى صوت الشعب، بينما الجيش موجود في كل مكان، في الشوارع وعلى الطرقات، وفي الاقتصاد، حيث يمتلك الشركات في السياحة والمواد الغذائية والنقل والبناء، والعاصمة الجديدة على بعد 45 كم شرق القاهرة.
لم يتركوا فرسخاً أو متنفساً للشعب، مع قسم مغلظ بأن الثورة لن تتكرر، وبالرغم من ذلك كله ترى فورن بوليسي أن "ديكتاتورية السيسي غير مستقرة وتفتقر إلى الثقة بالنفس".
إذن تحطمت آمال العقد الماضي. لكن يظهر التاريخ أن القمع ينجح، حتى يتغلب اليأس على الخوف، وبعد ذلك لا ينجح القمع.
وهو ما يتفق مع رأي الكاتب والصحفي البريطاني ديفيد هيرست (David Hearst): "الموجة الأولى من احتجاجات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011 مرت، لكن جمرها ما زال متقداً ويحترق في الشوارع وقلوب وذكريات الملايين… وما حدث قبل عشرة أعوام كان فقط الفصل الأول في نضال طويل وعظيم، وأنه من المؤكد أن الفصل الثاني على الطريق".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.