مع تزايد استخدام الدول والمنظمات الدولية للعقوبات ضد دول أخرى بهدف تحسين حالة حقوق الإنسان، يحدث جدل حول مدى قدرة العقوبات على دفع الدول المستهدفة لتغيير سياساتها. فالأدبيات الداعمة لسياسة فرض العقوبات تراهن على أنها ربما تساهم في حدوث انقسام في قيادة الدولة المستهدفة، أو ضرب إسفين بين القيادة والشعب حول ما يجب فعله حيال العقوبات والأزمة الناتجة عنها، أو ربما تتسبب في اندلاع احتجاجات شعبية تدفع الحكومة لتغيير سياساتها. لكن تلك الأدبيات بالمقابل تعترف بأن العقوبات لا تنجح دائماً في إحداث التغيير المنشود، بل وتقر أنها في بعض الحالات تأتي بنتائج عكسية، ولكنها تجادل بأنه في حال استخدام العقوبات بشكل صارم، وتطبيقها بشكل متواصل لفترة من الزمن قد تمتد إلى عقود بالتوازي مع تعديلها بشكل يناسب التغيرات في سلوك النظام الحاكم، فإنها ستكون قادرة على إحداث تغيير.
نماذج ناجحة
عادةً ما تركز الأدبيات التي تتناول هذا الملف على عدة نماذج تعتبر أنها تمثل حالات نجاح، ومن أبرزها:
1- إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا
"مبادئ سوليفان" التي سُميت على اسم القس ليون سوليفان، وهي عبارة عن مجموعة من المبادئ التوجيهية خاصة بالشركات الأمريكية العاملة في جنوب إفريقيا تحثها على استخدام نفوذها لمواجهة الفصل العنصري من خلال عدة إجراءات مثل دفع أجر متساو للبيض والسود، وتدريب غير البيض، وتعيينهم في مناصب شرفية، لعبت دوراً في الضغط على النظام العنصري. كما فرضت إدارة ريغان عقوبات محدودة مثل حظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى جنوب إفريقيا، فضلاً عن منع مشاركة الرياضيين من جنوب إفريقيا في العديد من المسابقات الدولية.
لكن بالمقابل نجد أن العقوبات لم تكن العامل الأبرز في إنهاء الفصل العنصري، إذ ساهمت متغيرات دولية مثل تفكك الاتحاد السوفييتي في فقد النظام العنصري بجنوب إفريقيا لدوره كمركز لمناهضة الشيوعية في الطرف الجنوبي للقارة الإفريقية. كما لعبت العوامل الداخلية دوراً جوهرياً، فالحراك الشعبي المعارض والعمل المسلح من طرف السود، وهجرة السود المتزايدة إلى المدن بالتوازي مع تنامي احتكاكهم بالعمل السياسي، والأزمة الاقتصادية الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، والاعتماد المتزايد على العمال من أصحاب البشرة السوداء، أمور ساهمت في حدوث انقسام في الكتلة العنصرية الحاكمة تجاه التعامل مع الوضع، ومن ثم جاءت العقوبات كعامل مكمل لتلك العوامل في إنهاء النظام العنصري مع إدراك قادته أن تكاليف بقائه أصبحت أكبر من تكاليف التخلي عنه.
2- نموذج بولندا
خلال حقبة الحكم الشيوعي لبولندا تعرضت حركة التضامن العمالية المدعومة من الكنيسة الكاثوليكية لإجراءات قمعية، ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي ريغان في عام 1982 لفرض عقوبات اقتصادية على بولندا. وقد لعبت العقوبات دوراً في دفع الحكومة لتحسين الأوضاع الحقوقية، وبالأخص في ظل وجود عدد كبير من المهاجرين البولنديين في الولايات المتحدة، وحرص حكومة وارسو على الحفاظ على علاقات اقتصادية مع واشنطن. وخلال سنتين أُفرج عن أغلب المعتقلين السياسيين، وألغيت الأحكام العرفية، وبالمقابل خففت واشنطن العقوبات لتشجيع بولندا على المزيد من الإجراءات الايجابية، ثم رُفعت العقوبات بالكامل عندما شرعت الحكومة البولندية في الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية وحركة التضامن المحظورة، وهو ما تُوج في النهاية باستبدال الحكومة الشيوعية بحكومة من قادة حركة التضامن، وهو ما دفع باتجاه انهيار الشيوعية في شرق ووسط أوروبا.
3- نموذج النظام العسكري في بورما:
بداية من عام 2011 انتهج النظام العسكري في بورما سياسات جديدة بعد مرور عقدين من فرض عقوبات دولية عليه في ثمانينيات القرن العشرين على خلفية الانتهاكات التي مارسها ضد المعارضة منذ توليه الحكم في عام 1962. وهو ما تضمن خطوات غير مسبوقة لتحسين الوضع الحقوقي من أبرزها إطلاق سراح زعيمة المعارضة أونج سان سو تشي والإفراج عن أعداد كبيرة من السجناء السياسيين، ورفع حظر البث عن بعض الإذاعات التي تبث من خارج البلاد مثل صوت أمريكا، وهو ما عُزي إلى الرغبة في التخلص من العقوبات الدولية، والانفتاح على الغرب بهدف تحسين الوضع الاقتصادي للبلاد. وقد خلص بعض الخبراء مثل أريه نيير إلى أن تطبيق العقوبات بصرامة لفترة طويلة وبالأخص على قادة القوات المسلحة البورمية ساهم في دفعهم لتغيير سياساتهم. ولكن يشوش على النموذج المذكور تنفيذ الجيش البورمي مجدداً لانقلاب عسكري في عام 2021، وإعادة سجن زعيمة المعارضة السابقة ورئيسة الوزراء، وذلك بعد فرض واشنطن عقوبات على بورما على خلفية اضطهاد عرقية الروهينغا.
رؤية مغايرة
تجارب فرض عقوبات دولية على كوبا والصين تقدم أدلة مضادة على عدم نجاح العقوبات في إحداث التغيير المنشود في سياسات الأنظمة تجاه حقوق الإنسان. ففي كوبا لم تؤد العقوبات الأمريكية المفروضة طوال عقود إلى تغيير نظام كاسترو لسياساته في ظل قناعته بأن تغيير سياساته لن يؤدي إلى رفع العقوبات. وفيما يخص الصين، فقد لعب حجم الاقتصاد الصيني الضخم، وازدهار التجارة بين الولايات المتحدة والصين، دوراً بارزاً في إدراك واشنطن أن فرض عقوبات اقتصادية قوية ضد الصين بعد أحداث ميدان تيانانمين في بكين عام 1989 ستكون له عواقب كبيرة على الاقتصاد الأمريكي، وهو ما دفع واشنطن إلى عدم الاستجابة لضغوط أنصار حقوق الإنسان بفرض عقوبات مؤثرة على الصين.
ورغم أن الأدبيات الداعمة لفرض العقوبات الدولية تدعو إلى دراسة العواقب المحتملة لفرض العقوبات، واستخدام العقوبات الذكية التي تستهدف بشكل أساسي النخب المسؤولة عن القمع مثلما حدث تجاه القوات المسلحة في حالة بورما؛ والسكان البيض في حالة جنوب إفريقيا إلا أنها تغفل عن جوانب مهمة مثل دور الدوافع الأيديولوجية في الحد من استجابة بعض الأنظمة للعقوبات الدولية، فضلاً عن توظيف تلك العقوبات للدلالة على أن النظام الحاكم يتعرض لمؤامرات وضغوط خارجية من أجل التخلي عن مبادئه، فعلى سبيل المثال لم تنجح العقوبات المفروضة على نظام صدام حسين بالعراق في دفعه لتحسين الوضع الحقوقي بالبلاد.
وعند التمحيص نجد عوامل أخرى متراكبة تؤثر على مدى استجابة الدول المعاقبة مثل قدرة النظام الحاكم على الالتفاف على العقوبات ووجود بدائل تجارية، وهو ما يتضح في الحالة السورية، حيث لعبت روسيا وإيران دوراً بارزاً في دعم النظام السوري وتزويده بالدعم العسكري والسلع والخدمات الأساسية ما كفل له مواصلة نهجه القمعي. كذلك تلعب دول الجوار دوراً مهماً، فعندما لا تُدعم العقوبات من الدول المجاورة للبلد الخاضع للعقوبات فإنها تفقد تأثيرها، في حين أن مشاركة دول الجوار في العقوبات يخنق الدولة المستهدفة بشكل كبير.
عادةً لا تنجح برامج العقوبات المشددة الطامحة إلى إحداث تغيير جذري في سياسات الأنظمة، إذ تتكيف الأنظمة المستهدفة مع العقوبات عبر إيجاد موردين أو أسواق بديلة، أو بناء تحالفات جديدة مع دول ذات أنظمة استبدادية مماثلة، كما تعمل الأنظمة على تعبئة الرأي العام المحلي واستثارة المشاعر الوطنية ضد الدول والمؤسسات التي تفرض العقوبات.
وفي المحصلة يمكن القول إن فرص نجاح العقوبات تزداد إذا كانت الدولة المستهدَفة صغيرة أو متوسطة الحجم، وتعاني من صراع داخلي أو اضطراب سياسي ولا تستند إلى أيديولوجية تؤمن بها غالبية المواطنين، حيث يمكن أن تؤدي ضغوط العقوبات في هذه الحالة إلى تغيير سياسات النظام. كما تلعب العوامل الداخلية في كل دولة دوراً مهماً في حدوث تغيير في ملف حقوق الإنسان، بينما تؤدي العقوبات دوراً مكملاً. أما في حال كون النظام الاستبدادي حليفاً للدول الغربية كما هو الحال مع نظام السيسي بمصر، ففرص فرض عقوبات دولية لا تكون واردة ابتداءً. فالعقوبات الدولية تتسم بأنها مسيسة ولا تُفرض فقط لتحقيق أهداف أخلاقية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.