عود ثقاب أشعله البائع المتجول محمد البوعزيزي في جسده فاشتعلت في جسد الأمة -حتى كتابة هذه السطور- بعد أن أضرم النار في نفسه في ولاية "سيدي بوزيد"؛ احتجاجاً على احتجاز السلطات التونسية لبضاعته قبل 11 سنة من اليوم.
بذلك العود اندلعت شرارة ثورات شعبية لم يتوقع كثيرون حدوثها في العالم، أثارت أحلاماً (عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، عندما أسقطت شعوب دول الربيع العربي رؤوس الأنظمة القمعية الديكتاتورية التي كانت تحكم. وساد الاعتقاد بأن الناس سينعمون بالسلام والرفاهية والحرية التي حرموا منها على مدى عقود، فخرج علينا من أطلقوا على أنفسهم "خبراء استراتيجيين"، يعيشون أحلام اليقظة بتوزيع الثروة على الشعب، ويهللون بأن ثورتنا المباركة سوف يحملها جيل بعد جيل، وسوف يتعلم منها الغرب والشرق.
ولم يعلم الخبراء أن السكاكين كانت تسن في الخفاء لتقطع الرؤوس، وأن سقف الأحلام له حدود، وجاءت لحظة الانقلاب، فظهر العنف واستمر وتصاعد، وأسقط الآلاف من القتلى والجرحى وأرسل عشرات الآلاف إلى المنفى، بينما لا تزال سوريا وليبيا واليمن تخوضان مخاضاً أمنياً عسيراً من حروب أهلية وتدخلات دولية وإقليمية!
لم تتحقق الأحلام بعد أكثر من عقد على الربيع العربي، ونجحت الثورة المضادة، لٱسباب كثيرة ومتنوعة. كالصراع بين الفصائل السياسية المختلفة والذي لم يقدر على حسمه أحد، لم يقدر فصيل واحد على سبغ الثورة كلها بألوانه وأفكاره، ولم تكن هنالك طبقة اجتماعية عريضة قادرة على حمل أفكار الثورة ومواجهة قوى الماضي بها، بل انحازت القوى التي بإمكانها حمل الثورة والمضي بها قدماً إلى الجانب الخطأ، وأعلنت الحرب على التاريخ. إن مسيرة الربيع العربي في العقد الماضي هي مسيرة إجهاض وإفشال بسوء وحسن نية.
أما القوى الإقليمية التي لم تكن قوى قبل الربيع العربي فلقد احتشدوا جميعاً لإفشاله، وإجهاض مسيرته، إما تضامناً مع حلفائهم، أو دفاعاً عن أنفسهم؛ خوفاً من وصول شرارة الثورة كما حدث في البحرين، ففتحوا خزائنهم وحشدوا منابرهم الإعلامية واستدعوا عناصر الدولة العميقة من مكامنهم، وأطلقوا حملات التشويه والتخوين والتعبئة التي سممت أجواء الربيع، وأعلنت فكانت الانتكاسات والهزائم التي سربت القنوط إلى نفوس كثيرين، الأمر الذي سوغ للبعض أن يعلن على الملأ وفاة الربيع العربي.
إذا قرأنا تاريخ الدول الغربية سنكتشف أنها مرت بنفس المراحل قبل أن تحقق الاستقرار، ولا بد من حدوث فوضى قبل تحقيق الاستقرار الثابت الذي يمكن البناء عليه، نعم؛ يمكن تحقيق الاستقرار مع الديكتاتورية، ولكنه يبقى استقراراً هشاً ينتهي عند موت أو رحيل الديكتاتور!
انتفاضة تاريخية
إذا قرأنا تاريخ الدول الغربية سنكتشف أنها مرت بنفس المراحل قبل أن تحقق الاستقرار، ولا بد من حدوث فوضى قبل تحقيق الاستقرار الثابت الذي يمكن البناء عليه، نعم؛ يمكن تحقيق الاستقرار مع الديكتاتورية، ولكنه يبقى استقراراً هشاً ينتهي عند موت أو رحيل الديكتاتور!
ثورات الربيع العربي مثلها مثل كل الثورات، بمجرد أن تنتصر على المستبد وتسقطه، تدخل في معارك جديدة مع أذناب المستبد، والمستفيدين منه فيما يُسمى بالثورة المضادة للثورات، كما حدث في دول أوروبا الشرقية عام 1968، فيما يُعرف بثورة (براغ)، وفي رومانيا بالثورة المضادة، وفي أوكرانيا بالثورة البرتقالية!
بقايا الأنظمة المستبدة بعد نجاح الثورات تدخل فى معارك مع قيم وثقافة الثورات، من أجل الدفاع عن مكتسباتها وامتيازاتها قبل الثورات، ولابد وأن تستعيد الثورات توازنها، وترسخ ثقافتها وأهدافها بمرور الوقت.
ويُظهر التاريخ أن الثورات تحتاج إلى سنوات طويلة، غالباً ما تكون صعبة، لبلوغ نتائجها؛ إلا أنه ليس من السهل العودة عن التغييرات التي تطرأ على أشخاص شاركوا في تلك الثورات، أو كانوا شهوداً عليها.
كما درسنا في التاريخ في الجامعة أن في ربيع شعوب الغرب، كانت تمثل الثورة رؤية ومصالح طبقة اجتماعية جديدة، مثل الثورة الفرنسية التي كان لها توجه سياسي فقامت على ثلاثية العقل والحرية والإرادة في مواجهة اللاهوت الديني والتراتبية الاجتماعية. أيضاً، الثورة" البلشفية "عام 1917 في روسيا، والتي قامت تجسيداً للأيديولوجيات الماركسية، رافعة لطبقة اجتماعية تحمل مشروعاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً جديداً، على النقيض من الربيع العربي. ولهذا أميل إلى وصف الربيع العربي بالانتفاضة بدلاً من الثورة، فربيعنا لم يكن ثورة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية، بل هي انتفاضات تاريخية تحولت إلى ثورات سياسية. ولذلك هي إحدى الانتفاضات التاريخية الكبرى، رجوعاً لفكر العالم الفرنسي "آلان باديو" الذي يصنف الانتفاضات إلى ثلاثة أنواع، منها:
- انتفاضة جزئية ومحدودة كرد فعل على حدوث واقعة ظلم.
- الانتفاضات التي تكون تعبيراً عن صمت مكبوت تفجر بسبب حدث عارض.
- الانتفاضة التاريخية التي يتواصل فيها زخم الفعل الثوري حتى يخلق وقائع تفتح آفاقاً تاريخية جديدة.
إن شواهد الفشل والانتكاسات التي حفلت بها مسيرة الربيع العربي، كما الانتصارات التي حققتها الثورة المضادة ماثلة أمام أعيننا، ولا سبيل لتجاهلها، أو إنكارها، لكننى أزعم أن هذا كله لا يعني بالضرورة نهاية الربيع العربي فقط إذا احتكمنا إلى تحليل الواقع وخبرة التاريخ، وإذا اعتبرنا ما مررنا به درساً نتعلم منه ما يبصرنا بأخطائنا، ومواطن الضعف فينا، وليس نعياً لتطلعات شعوبنا وأحلامها!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.