تلقَّى منتخب جزر القمر لكرة القدم تعاطفاً وإعجاباً كبيرين من متتبعي الرياضة العالمية بعد إقصائه الدراماتيكي في الدور ثمن النهائي لمسابقة كأس أمم إفريقيا المتواصلة حالياً بالكاميرون، على يد منتخب البلد المضيف، بنتيجة هدفين لواحد في مباراة خاضها ممثل العربي بعشرة لاعبين فقط مند الدقيقة السابعة، بسبب طرد اللاعب نجيم عبدو بالبطاقة الحمراء، وبدون حارس مرمى حقيقي، في ظل معاناة الحارس الأساسي سليم بن بوانا من الإصابة وتعرض الحارسين الاحتياطيين، مؤيد أوسيني وعلي أحمد، لفيروس كورونا.
حرس مرمى منتخب جزر القمر في تلك المباراة التاريخية، اللاعب شاكر الهدهور، وذلك على الرغم من تعافي أحد الحارسين الاحتياطيين، علي أحمد، من الفيروس اللعين، قبل يوم واحد من موعد اللقاء، وذلك بسبب التأويل حسب المزاج للاتحاد الإفريقي لكرة القدم للوائح الخاصة بالبروتوكولات الصحية لفيروس كورونا المطبقة في هذه البطولة الإفريقية.
لن أطيل عليكم أعزائي القراء بالحديث عن تلك المباراة المميزة، لأنها ليست موضوعنا اليوم، ومن المؤكد أنّ الكثير منكم قد لفت انتباهه من خلال تتبعه لنهائيات كأس أمم افريقيا الحالية، إشارة المعلقين إلى أنّ منتخب جزر القمر، هو أحد ممثلي العرب في البطولة.. نعم الكثير من العرب لم يكن يعرف، قبل انطلاق "كان 2022" بالكاميرون، أنّ هذا الأرخبيل الصغير الواقع بالمحيط الهندي بجنوب شرق قارة إفريقيا هو بلد عربي، وعضو بالجامعة العربية منذ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1993، بعد استقلال البلد عن فرنسا في عام 1975.
ولذلك فضَّلتُ أن يكون مقالي عن التطور الرياضي المدهش لمنتخب جزر القمر ممزوجاً بالتاريخ والجغرافيا، وسوف تلاحظ عزيزي القارئ دور التاريخ في هذا التطور الرياضي.
وتقع جزر القمر البركانية على مقربة من الساحل الشرقي لإفريقيا بين شمال مدغشقر وشمال شرق موزمبيق. وأقرب الدول إلى جزر القمر هي موزمبيق، وتنزانيا، ومدغشقر، والسيشل.
وتبلغ مساحة جزر القمر 1.862 كيلومتر مربع، ويقدر عدد سكانها بنحو 900 ألف نسمة، ويتحدثون 3 لغات، هي: القمرية، والعربية، والفرنسية.
من هم سكان جزر القمر؟
ويُعتقد أنّ أول مَن سكن جزر القمر هم قوم جاؤوا، في القرن السادس الميلادي، عن طريق القوارب، من بولينسيا وماليزيا وإندونيسيا، ثم تنوع السكان بقدوم تجار من الخليج العربي وبالخصوص اليمن، ومن شرق إفريقيا ومدغشقر، ومن المؤكد أنّ الإسلام قد دخل واستوطن في البلاد بفضل التجار العرب.
وبدأ الاستيطان الأوروبي لجزر القمر في عام 1505 من خلال بعض المستكشفين البرتغاليين، ثم استعمرها الفرنسيون في سنة 1841 بمساعدة الملغاشييين تحت مظلة الحماية، ثم تنازل السلطان سعيد محمد سلطان أنجوان عن العرش لصالح فرنسا في عام 1909، فأصبحت جزر القمر رسمياً مستعمرة فرنسية في سنة 1912.
وتم التوصل إلى اتفاقية مع فرنسا في عام 1973 بشأن استقلال جزر القمر في عام 1978. وعلى الرغم من ذلك ففي السادس من يوليو/تموز 1975 أصدر برلمان جزر القمر قرارًا من جانب واحد يعلن استقلالها.
وقد امتنع نواب جزيرة "مايوت" عن التصويت. وتم إجراء الاستفتاءات في كل الجزر الأربع الكبرى للأرخبيل، وقد صوَّتت ثلاث جزر للاستقلال، بينما صوتت مايوت ضد الاستقلال وظلت تحت الحكم الفرنسي إلى غاية الآن، وقد أعلن أحمد عبد الله استقلال دولة جزر القمر في الخامس من سبتمبر/أيلول 1975 وأصبح أول رئيس لها.
وبحكم العلاقة التاريخية المميزة مع فرنسا، تتواجد جالية كبيرة من جزر القمر بهذه الدولة الأوروبية، حيث يتواجد أغلب المهاجرين بمدينة مارسيليا بأكثر من 100 ألف قمري.
وتأسس اتحاد جزر القمر لكرة القدم في عام 1979، وانضم رسمياً للاتحاد الإفريقي للعبة في سنة 2000، ثم للاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" في عام 2005.
وبسبب تأخر انضمام اتحاد الكرة للهيئات الكروية الدولية الرسمية، فإنّ منتخب جزر القمر كان يكتفي بالمشاركة في مسابقات إقليمية صغيرة، على غرار ألعاب جزر المحيط الهندي، حيث خاض أول مباراة له في سنة 1979، وذلك أمام منتخب موريس (موريشيوس) لحساب ذات المسابقة، والتي انهزم خلالها بثلاثية نظيفة.
البداية الرسمية كانت من البوابة العربية
وبعد انضمام اتحاد الكرة للفيفا في 2005، كان بإمكان المنتخب المشاركة في تصفيات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم 2008، التي انطلقت في شهر سبتمبر/أيلول 2006، لكن عدم توفر البلد لملاعب وفق المعايير الدولية، حال دون ذلك، فتأجلت المشاركة الرسمية الأولى للمنتخب لشهرين فقط، حيث كان أول ظهور رسمي لمنتخب جزر القمر في مسابقة معتمدة من طرف الفيفا، في شهر ديسمبر/كانون الأول، بمناسبة تصفيات كأس العرب للأمم لكرة القدم 2009، لما لعب في المجموعة الأولى التي جرت أطوارها في مدينة صنعاء اليمنية، فانهزم الفريق في المباراة الأولى أمام منتخب اليمن ب2-0 ثم فاز على المنتخب الجيبوتي بـ4-2. وتأهل اليمن إلى الدورة النهائية لهذه البطولة العربية التي تم إلغاؤها فيما بعد لأسباب تنظيمية.
وخاض جزر القمر الدور التمهيدي للتصفيات المزدوجة لمونديال 2010 وكأس أمم إفريقيا 2010، في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2007، أمام منتخب مدغشقر، فانهزم بنتيجتين ثقيلتين ذهاباً (0-6) وإياباً (0-4)، ثم شارك في تصفيات كأس أمم إفريقيا 2012، فأقصي في الدور التصفوي الأول من مجموعة ضمت كل من زامبيا وليبيا وموزمبيق، لكنه حقق أول نقطة له في تاريخ التصفيات الإفريقية عندما تعادل بميدانه يوم 05 يونيو /حزيران 2011 أمام منتخب ليبيا (1-1).
وغاب منتخب جزر القمر عن تصفيات كأس أمم إفريقيا 2013 لأسباب مالية، ثم عاد الفريق للمنافسة الرسمية بجهاز فني جديد يقوده أمير عبدو الذي كان يشغل في نفس الوقت منصب مدرب لنادي "غولفيش" الفرنسي الصغير.
وكان المناجير (المدير العام) السابق لمنتخب جزر القمر، بن أمير سعدي وراء تعيين المدرب الجديد أمير عبدو، في يناير/كانون الثاني 2014، حيث اتفق الرجلان مع رئيس اتحاد الكرة في ذلك الوقت سليم تركي على مشروع طويل المدى يقود المنتخب للمشاركة في دورة نهائية كأس أمم إفريقيا من خلال الاعتماد على اللاعبين المحترفين الناشطين بفرنسا وتحفيزهم بالدفاع عن ألوان المنتخب من خلال توفير أبسط الإمكانيات اللوجستية.
"لنمضِ قدماً".. شعار بدأ في عام 2014
وكانت بداية المدرب أمير عبدو بإجراء مباراة ودية يوم 5 مارس/آذار 2014 بمدينة مارتيغ الفرنسية مع منتخب بوركينا فاسو، وَصِيف بطل إفريقيا في ذلك الوقت، وانتهت بنتيجة التعادل (1-1) ودخل بعدها رئيس اتحاد الكرة القمري، سليم تركي، إلى غرفة تغيير ملابس الفريق، وقال للاعبين: "لنمضِ قدماً" وهي العبارة التي أصبحت شعاراً تحفيزياً للمنتخب منذ ذلك الوقت.
أما البداية الرسمية للمدرب أمير عبدو فكانت بخوض تصفيات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم 2015، والتي كانت متعثرة حيث أقصي منتخب جزر القمر على يد نظيره الكيني في الدور التمهيدي الثاني بهزيمة (2-1) وتعادل (0-0)، ثم شارك الفريق في تصفيات كأس أمم إفريقيا 2017، في مجموعة ضمت منتخبات بوركينا فاسو وبوتسوانا وأوغندا، وعلى الرغم من خروجه من المنافسة فإن المنتخب القمري نجح في تحقيق أول انتصار في تصفيات البطولة القارية، وذلك بقواعده أمام بوتسوانا (1-0) يوم 24 مارس/آذار 2016.
مواجهة تاريخية مع غانا في تصفيات مونديال 2018
وكاد منتخب جزر القمر أن يُحدث مفاجأة مدوية خلال التصفيات الإفريقية لمونديال روسيا 2018، حيث تجاوز في الدور التمهيدي الأول منتخب لوزوتو في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2015، بالتعادل ذهاباً (0-0) بملعبه وإياباً (1-1) بميدان منافسه، ثم واجه في الدور الثاني منتخب غانا القوي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، حيث تعادل معه في لقاء الذهاب (0-0) مع عدم احتساب هدف شرعي لصالحه (د80) ثم هزيمة في مباراة الإياب بالديار الغانية بهدفين.
وبقيت تلك المواجهة التاريخية مع غانا راسخة في الذاكرة الجماعية لجماهير منتخب جزر القمر ولاعبيه، وهو ما يفسر الحماس والإرادة الكبيرتين اللتين خاضوا بهما مباراة دور المجموعات لكأس أمم إفريقيا 2022 الحالية، التي فازوا بها على نفس المنافس ( 3-2).
وتواصل التطور التدريجي لمنتخب جزر القمر من خلال مشاركته في تصفيات كأس أمم إفريقيا 2019، فتأهل إلى الدور التصفوي الثاني على حساب منتخب جزر موريس في شهر مارس/آذار 2017، بفوزه ذهاباً (2-0) وتعادله إياباً (0-0)، ثم تنافس في المجموعة التصفوية رفقة منتخبات الكاميرون والمغرب ومالاوي، وعلى الرغم من خروجه من السباق، فإنه حقق نتائج جيدة على غرار التعادل مع الكاميرون (1-1) وفوز على مالاوي (1-1) وتعادل مع المغرب ( 2-2) بميدانه وهزيمة بصعوبة كبيرة أمام "أسود الأطلس" بالدار البيضاء يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 2018، حيث سجل المنافس هدفه الوحيد بركلة جزاء في الدقيقة الثانية من الوقت المحتسب بدل الضائع.
ثم جاء وقت دخول التاريخ بالتأهل لأول مرة إلى نهائيات كأس أمم إفريقيا لكرة القدم التي كانت مقررة في البداية بالكاميرون في صيف 2011 ثم تأجلت إلى يناير/كانون الثاني من العام 2022 الجاري، حيث خاض منتخب جزر القمر التصفيات بداية من الدور الثاني ضمن المجموعة السابعة رفقة منتخبات مصر وكينيا وتوغو، واحتل خلالها المركز الثاني المؤهل إلى الدورة النهائية.
وحقق جزر القمر في تلك التصفيات فوزين أمام توغو وكيينا وتعادل معهما بملعبيهما، كما تعادل ذهاباً مع منتخب مصر (0-0) وانهزم أمامه إياباً برباعية نظيفة.
تأهل إلى "كان الكاميرون" في غياب المهندس الأول
وجاء هذا التأهل التاريخي في غياب صاحب شعار "لنمضِ قدماً"، سليم تركي الذي ترأس اتحاد جزر القمر لكرة القدم من عام 1997 إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2017، حيث استقال من منصبه على وقع فضيحة التلاعب بنتائج مباريات الدوري المحلي، وجاء التأهل، إذاً، في عهدة السيدة "كانيزات إبراهيم" التي عينها الاتحاد الدولي لكرة القدم في مارس/آذار 2019 بتسيير اتحاد الكرة المحلي بشكل مؤقت إلى غاية إجراء انتخابات رئاسية جديدة والتي أسفرت عن صعود الرئيس الحالي سعيد علي سعيد عثمان في شهر فبراير/شباط 2021.
وقد استغلت كانيزات إبراهيم تواجدها في اتحاد الكرة لجزر القمر لدخول أروقة الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، حتى أصبحت في شهر مارس/آذار من العام الماضي 2021، عضو في اللجنة التنفيذية للاتحاد الإفريقي ونائب رئيس الاتحاد، ورئيسة لجنة التنظيم لكرة القدم النسوية.
وبحكم البنية التحتية الرياضية التي لا تزال هشة في دولة جزر القمر وضعف مستوى الدوري المحلي لكرة القدم والاعتماد الكلي في المنتخب الأول على اللاعبين الناشطين بالخارج وبالخصوص بفرنسا، فإنّ استمرار النتائج الجيدة لهذا الفريق على المستويين الإفريقي والدولي يبقى مرهوناً على المديين القريب والمتوسط بمدى جاهزية هؤلاء اللاعبين ودرجة تكوينهم بفرنسا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.