بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورة 19 ديسمبر التي أطاحت بالرئيس السوداني الأسبق عمر البشير، لا يزال السودان يعاني من وجود قطاع إعلامي سلطوي، وقيود على حرية التعبير. ولم تستغلّ الحكومة الانتقالية التي حكمت البلاد في فترة ما بعد الثورة الفرص التي أُتيحَت لها لإصلاح وسائل الإعلام الحكومية والخاصة، حيث تعرّضت الأصوات الناقدة إلى المضايقات والتهميش من جانب جهات حكومية وغير حكومية. وطالما أن في السودان طغاة يعتقدون بأن السيطرة على وسائل الإعلام تصبّ في مصلحتهم، فلن يتحقق الإصلاح إلا عن طريق بعض الأصوات المعارضة في وسائل الإعلام، مدعومة بتأييد المجتمع المدني والجماهير.
تزداد صعوبة إيجاد مكان للأصوات الناقدة في وسائل الإعلام التقليدية. فقد دعمت الكثير من وسائل الإعلام في السودان بقوّة سردية البرهان للأحداث منذ عزل رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك، أما الأصوات المعارضة لجبهة الانقلابيين، فهي شبه غائبة من الصحف والبرامج التلفزيونية، حيث أغلقت سلطات البرهان العديد من وسائل الإعلام المحلية والعالمية التى فضحت الانقلاب ونقلت الحقائق بمهنية عالية، (مثل قناة الجزيرة مباشر)، سبقها مداهمة مقر قناة العربية الحدث والاعتداء على العاملين بها وتكسير أجهزة ومعدات القناة داخل المبنى.
فيما تستمر شبكات التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر في توفير منبر للآراء السودانية المهمّشة. على الرغم من أنها تعاني حالة من الاستقطاب هي الأخرى، توفّر شبكات التواصل الاجتماعي أحد المنابر القليلة التي تُمكِّن النشطاء الساعين إلى التوصّل إلى حلولٍ وسطٍ من التعبير عن آرائهم، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان.
ثمّة حاجة إلى إصلاح وسائل الإعلام الحكومية أكثر من أي وقت مضى، لكن الإرادة السياسية اللازمة غير متوفرة. لم يُظهِر نظام الانقلاب الحالي، بقيادة البرهان، حتى الآن الكثير من الاهتمام بجعل وسائل الإعلام الحكومية أكثر انفتاحاً وديمقراطية. إذ لا تزال هذه الوسائل في الوقت الراهن في خدمة البرهان وحده وليس الشعب.
يأمل الكثيرون بأن تخفّف سلطات الانقلاب الحالي قمعه لوسائل الإعلام، غير أن المؤشرات الأولية ليست مشجّعة. تشمل هذه المؤشرات إلغاء ومصادرة تصريح العمل لقناة الجزيرة مباشرة وإغلاق ومنع صحيفة الحداثة السودانية من حق النشر والصدور. بالإضافة إلى الاعتداء المتكرر على الصحفيين والصحفيات واعتقالهم أثناء عملهم عندما يقومون بالتغطية الصحفية ونقل الأحداث خلال المواكب الثورية (كثير من الحالات موثقة بحسب منظمات حقوقية).
وبالتالي، ثمة حاجة إلى حدوث تغييرات كبيرة في قوانين الإعلام وبنيته للمساعدة في انتقال السودان إلى الديمقراطية. ويبدو أن المشكلة كبيرة إلى حدِّ أن هذه التغيرات تعتمد على الإرادة السياسية أكثر منها على أي شيء آخر، وقد لا تكون التغييرات في مصلحة سلطات الانقلاب الحالي، الذي يستخدم الإعلام لترويج قضاياه. ويبدو من الحالة هذه أن السبيل الوحيد للخروج من المأزق، باستثناء الإرادة السياسية، يكمن في الإصلاح عن طريق قلّة من الأصوات المعارضة داخل وسائل الإعلام، مدعومة بتأييد المجتمع المدني والجماهير.
الإعلام في السودان بين الدستور والواقع
في حين ضمنت حقوق الإنسان والدساتير السودانية حرية التعبير ظاهرياً، كان الواقع مسألة مختلفة. فكثيراً ما اعتمدت حكومة البشير السابقة وسلطات الانقلاب الحالية على القوانين التي تعيق حرية التعبير، بما فيها قوانين الطوارئ ومواد من قانون العقوبات، واستخدمتها لفرض رقابة على المحتوى، وترهيب الصحافيين والمدوّنين والمذيعين. وعلى مرّ السنين، دفع هذا الكثير من المنخرطين في الشأن الإعلامي إلى فرض رقابة ذاتية على أنفسهم، كما أدّى إلى الاعتراف بخطوط حمراء حول مواضيع يُعتبر التطرّق إليها أمراً في غاية الحساسية.
في السودان كان الميثاق ينصّ على أن الإذاعة والتلفزيون هو هيئة البثّ الوحيدة في البلاد. وللالتفاف على هذه القاعدة، عندما قررت السلطات السماح لمحطات البثّ الفضائي الخاصة بدخول السوق، كان على الدولة أن تُعلِن عن (مدينة للإنتاج الإعلامي) خاصة بها منطقةً حرّةً حتى يمكن منح هيئات البثّ العاملة تراخيص للبثّ. كانت التراخيص تصدر عن الهيئة العامة للاستثمار في البلاد، وهي كيان لاعلاقة له بالبثّ أصلاً، وكانت تعتمد في الواقع على تقارير جهاز الأمن والمخابرات لمنح تراخيص البثّ الفضائي لرجال الأعمال المتحالفين بصورة وثيقة مع نظام البشير. وبخلاف ذلك، لا توجد معايير معروفة لمنح تراخيص البثّ الفضائي في السودان.
وتعتمد الإذاعة والتلفزيون في السودان مالياً على الحكومة، وهو ما يشكّل تهديداً خطيراً آخر لاستقلاليته.
ومع هذا كله، قامت ثورة ديسمبر بمساعدة الإنترنت. لم تكن شبكة الإنترنت سبباً الثورة، لكنها كانت بمثابة محفّز لها وساعدت في تسهيل الأمور وتنظيمها وتسريعها. فقد لعبت شبكة الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، دوراً مهماً في إعداد قطاعات معيّنة من المجتمع لهذه اللحظة وتنظيمها ومساعدتها على التعبئة عندما حانت اللحظة المناسبة.
في هذا الصدد، من المهم أن نلاحظ أن ثورة ديسمبر لم تبدأ في عام 2019، وأنها لم تنتهِ آنذاك، فهي لا تزال مستمرة. إضافة إلى ذلك، فإن الكثيرين ممَّن ملأوا الساحات في السودان خلال الأيام التي أطاحت بالبشير، إن لم يكن معظمهم، لم يكونوا من مستخدمي الإنترنت. ومع ذلك، فإن شبكة الإنترنت هي التي وفّرت نقطة البداية التي نظّمت الحشود وجمعتها.
وبرز مفهوم النشاط السياسي على الإنترنت في السودان مبكراً، مع إدخال التقنيات التفاعلية التي أحيت مفهوم الويب. وركّزت ثقافة التدوين على القضايا السياسية التي تفجّرت في السودان بطريقة لم يسبق لها مثيل في العالم العربي. وسرعان ما أصبح بضعة مدوّنين سودانيين نجوماً بين أقرانهم من شباب العالم العربي، لأنهم غامروا في مواضيع لم يكن أحد يجرؤ على تناولها من قبل. كانت النزاهة، بل الجرأة، التي تناول بعض هؤلاء المدوّنين من خلالها القضايا السياسية، مفاجِئةً وصادمةً في بعض الأحيان، في بلد يشتهر بأن لديه خطوطاً حمراء خطيرة، ولاسيما في ما يتعلّق بالرئاسة.
خلق التدوين مساحةً للوعي السياسي والنقاش كانت جديدة وطارئة على المنطقة. وأدرك بعض المدوّنين الشباب أن لديهم عدداً من المتابعين يتجاوز أرقام توزيع الصحف اليومية السودانية الكبرى، وهو ما شجّعهم على الاستمرار ومحاولة توسيع دوائر نفوذهم.
القنوات الخاصة
أما القنوات الفضائية الخاصة فقد اختلفت في مستوى تأييدها للبشير أو المتظاهرين الذين تعهّدوا بإسقاطه وكذا الحال الآن بعد انقلاب 25 أكتوبر العام الماضي. البعض من هذه القنوات يملكها رجال أعمال ممَّن كانوا يرتبطون بتحالف وثيق مع نظام المؤتمر الوطني، لذلك حاولت قدر الإمكان الدفاع عن النظام وتشويه سمعة المتظاهرين. ويظهر ذلك جلياً في معظم البرامج الحوارية المسائية .
كان هناك عدد قليل من القنوات التلفزيونية الخاصة وبعض البرامج المحدّدة على القنوات الأخرى التي اختارت الوقوف إلى جانب الثورة، وحاولت تغطية ما يجري في الساحات السودانية بقدر المستطاع. وقد سَعَت إلى استضافة ضيوف متوازنين، بما في ذلك النشطاء والمثقّفين، فضلاً عن ممثّلين مناصرين لجبهة الانقلاب رافضة للحراك ومؤيدة للحكم العسكري. حظيت هذه البرامج، فضلاً عن تغطية القنوات غير السودانية مثل قنوات الجزيرة والعربية والحدث والعربية، بالشعبية لدى الجمهور الذي كان يحاول معرفة ما يجري في الساحات السودانية. وبالتالي واجه العديد من هذه الوسائل بعض المضايقات من جانب الحكومة، بما في ذلك قناة الجزيرة مباشر، التي أغلقت سلطات الانقلاب مكاتبها خلال الأيام الماضية.
علّق الكثير من السودانيين آمالاً كبيرة على إصلاح الإعلام في السودان بعد اندلاع الثورة. ومع سقوط البشير بعد ثلاثين عاماً من الحكم الديكتاتوري، ظنّ الكثيرون أن كل أحلامهم لهذا البلد سوف تتحقّق مستقبلاً، بما في ذلك الحلم بوجود إعلام مستقل.
الإعلام الحكومي يمجد الثوار
في أعقاب سقوط البشير مباشرة، مجّد الإعلام الحكومي الثوار طالما أن ذلك لم يكن يتعارض مع تمجيد المؤسسة العسكرية. وأصبح كل ما يتعلق بالثورة حديث الساعة، حيث أصبح النشطاء ضيوفاً دائمين على البرامج الحوارية وأجروا مقابلات صحافية متكرّرة. وبدأت الخطوط التحريرية تشير إلى أن نظام البشير كان دائماً الخطر المطلق، وأن الثوار ملائكة مطلقة والجيش هو منقذ الثورة.
بعد فترة شهر عسل وجيزة جداً، وخلال فترة قصيرة من الحكومة الانتقالية بدأ تمجيد وسائل الإعلام الحكومية للنشطاء يتقلّص لصالح المجلس العسكري للقوات المسلحة. في الوقت نفسه، بدأت أوجه قصور إدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية في الظهور. واتّضح أن أحلام الشعب الأولية بقيام نظام إعلامي حرّ لم تتحقّق. على عكس ذلك، بدأت حرية التعبير تواجه بعض التهديدات والتحدّيات الخطيرة عندما بدأ النظام بتضييق الخناق على الحريات الإعلامية.
بعد ذلك بوقتٍ قصير وعقب انقلاب البرهان المستمر حتى الآن، أصبح الإعلام الحكومي مؤيّداً قوياً للنظام العسكري، وقام بحملات تشهير لتشويه سمعة الثوار. وأشار تقرير نشرته مجلة (تايم) الأمريكية إلى أن البرامج الحوارية في محطات الإعلام الحكومي كانت مليئةً بالألفاظ المعادية للمحتجين، حيث صوّرت الثوار باعتبارهم "بلطجية" وحذّرت من "التدخّل الأجنبي" في الشؤون السودانية، ومن تزايد انعدام الأمن وارتفاع معدلات الجريمة. أما التظاهرات المناهضة للمؤسسة العسكرية فقد وُصِفَت بأنها "أحداث خطيرة ومزعزعة للاستقرار يحرّكها عملاء أجانب".
تعرّض الأشخاص الذين انتقدوا المؤسسة العسكرية إلى الترهيب من جانب النظام بوسائل عديدة. ففي 2021، بدأت المؤسسة إخضاع المدوّنين والصحافيين إلى محاكمات وتحقيقات عسكرية. وقامت بسن قانون وتشريع الجرائم الالكترونية والجرائم الموجهة ضد الدولة لإرهاب المدونين المعارضين.
كانت بعض هذه الانتهاكات نتيجة الرقابة الذاتية من جانب أصحاب القنوات أو المديرين الذين لم يسمحوا بوجهات نظر قد تُعتبَر مناهضةً للمؤسسة العسكرية. على سبيل المثال، فَصَلَ صاحب قناة "النيل الأزرق السودانية"، مقدِّمة البرامج الحوارية وبرنامج صباح جديد مودة حسن بعد أن عرضت رأياً مناهضاً للمجلس العسكري وسلطات الانقلاب واعترضت على قتل الثوار والمواطنين العزل على الهواء مباشرة.
وجرى فصل مودة بعد ذلك بوقت قصير. مودة تحدثت كمواطنة سودانية عن حقيقة بعض المفاهيم التي يتم إشاعتها بين الناس في تلك المرحلة الحرجة في البلاد، وهذا هو دور الإعلامي الواعي بحقوق المواطنة وواجباتها وعكس هذا الوعي في شكل روشتة للحاكم قبل المواطن بكل تجرد فالمبادئ لا تتجزأ.
ولعمري تلك شجاعة وفخر وإعزاز للأسرة والبيت الذي تربت فيه مودة، شابة بقامة رجال في الوقت الذي صمت فيه كثيرون من رجال الدين وعلماء السلطان وليس الدين، سكتوا ولم يقولوا كلمة حق في وجه البرهان ويملأون الجوامع صراخاً وعويلاً.
لذلك يجب أن نحييها ونشد على يديها مؤكدين تضامننا الكامل معها. هذا القرار سواء جاء من إدارة القناة بطريقة مباشرة أو من خلال ضغط من المجلس العسكري فهو سيان بالنسبة لها، نظراً لأنه يعيد التحكم في حرية الإعلام إلى الدولة ممثلة في سلطات الانقلاب، ولرأس المال ممثلاً في رجال الأعمال ملاك هذه المؤسسات.
وعادةً ما يلجأ الانقلابيون إلى خنق وسائل الإعلام والتضييق على الصحفيين وحرية التعبير، مباشرة بعد انقلابهم، بحجة حماية مصلحة البلاد العليا، وهو ما تكرر في السودان عقب انقلاب البرهان على الدستور ومؤسسات الدولة ومحاولته السيطرة على كل السلطات، ما جعل العديد من الصحفيين يدقون ناقوس الخطر.
يريد قادة الانقلاب أن يسكتوا الصحفيين والاعلاميين السودانيين وغداً يسكتون الكل. المرحلة حساسة ومفصلية على مستوى الحريات عامة وخاصة حرية التعبير والإعلام ويتطلب ذلك صفاً صحفياً متضامناً ومتآزراً لمنع أي محاولات للانقضاض على المكاسب القليلة لحرية الصحافة، ومواقف شجاعة وجريئة من كل هياكل المهنة النقابية والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري.
يجب توحيد الصف لتجنب انزلاقات خطيرة في وقت تحتاج فيه البلاد للتعددية والمهنية والخطاب الإعلامي الحر في ظل انتشار الإشاعات والأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات والمواقع المنحازة للبرهان.
ختاماً؛ السودان الآن ليس دولة ولا حتى مزرعة، بل هو إسطبل تحكمه عصابات من أرخص العصابات وتسود فيه نخب من أتفه الخلق وأشدهم حقداً وأكثرهم جهلاً. ويبقى السؤال هو: كيف يمكن بناء دولة أو مجتمع أو أي نظام سياسي في السودان عن طريق نخب موبوءة؟ كيف يمكن إنجاح ثورة أو مسار انتقالي أو تحقيق أي نوع من أنواع التقدم الحقيقي أو حتى التحرر من شروط التخلف بواسطة سياسة تكميم الأفواه وإسكات الأصوات؟ كيف يقوم السلم والبندقية هي الحَكم؟ كيف!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.