أحدث قرار غرفة استئناف المحكمة الجنائية الدولية، الذي سمح بافتتاح تحقيق في اشتباه وقوع جرائم بالغة الخطورة في أفغانستان، انزعاجاً كبيراً لدى الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ أعطى قرار المحكمة الضوء الأخضر لمكتب الادعاء من أجل مباشرة تحقيقات قد تؤدي إلى متابعات في حق قادة وجنود حلف الشمال الأطلسي، لا سيما من القوات الأمريكية الذين شاركوا في الحرب في أفغانستان.
(التحقيق افتُتح في 05 آذار/مارس 2020، لكن القضاء الأفغاني طلب الاختصاص التكميلي فأوقف على إثره التحقيق على مستوى الجنائية الدولية، والآن -بعد الذي حدث- تمّ إعادة طلب افتتاحه من جديد والمكتب ينتظر الرد بخصوص طلب الاضطلاع بالتحقيق).
فقد أقر الادعاء بحيازته وثائق وأدلة تشير إلى تورط عناصر من الجيش الأمريكي ومن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في جرائم اختطاف وتعذيب طالت عدة أشخاص بشبهة انتمائهم إلى تنظيم القاعدة وإلى حركة طالبان؛ حيث كيّف الادعاء تلك الجرائم ضمن جرائم الحرب.
ويحُوز ادعاء المحكمة بعض العناصر غير المكتملة- لم يطلب فتح التحقيق بشأنها بعد- تشير إلى احتمال وقوع انتهاكات لقواعد قانون الحرب جراء القصف الجوي لقوات الناتو التابعة للولايات المتحدة ولدول أخرى على بنايات مدنية محميّة قانوناً نتج عنه ضحايا في صفوف المدنيين.
وتجدر الإشارة إلى أن ملف الادعاء تضمن أيضاً وثائق وأدلة أخرى تشير إلى تورط أفراد من الجيش والأمن الأفغاني وحركة طالبان ومجموعات مسلحة أخرى في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أودت بحياة آلاف المدنيين.
وقد أودت الحرب في أفغانستان بحياة 241.000 شخص، سواء كانوا من المدنيين أو من القوات المتحاربة، أضف إلى ذلك ما نتج عنه من ضحايا على الأراضي الباكستانية جراء النزاع. ويقدر عدد الضحايا المدنيين بـ 71.344، أما عدد الأطفال القتلى فقد قُدر بـ7.792. ونفذت قوات الناتو ما يزيد على 13.072 ضربة جوية استعملت فيها طائرات مُسيّرة.
وسنستعرض ضمن الجزء الأول من المقال نشأة المحكمة واختصاصاتها وشروط مقبوليّة الدعوى لديها، قبل أن نُعرّج إلى الخطوات الإجرائية التي مرّ بها ملف قضية أفغانستان على مستوى المحكمة وذلك بخصوص الجرائم الدولية المحتمل وقوعها على أراضيها خلال حقبتي الحرب وبالتحديد ابتداءً من تاريخ 10 أغسطس/آب 2003.
المحكمة الجنائية الدولية: النشأة والاختصاص والمقبوليّة
تضطلع المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمة الأشخاص الضالعين في الجرائم الأشد خطورة المندرجة ضمن اختصاصها، وهي الأفعال المصنفة ضمن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجريمة العدوان، وقد شرعت المحكمة عملها ابتداءً من شهر يوليو/تموز سنة 2002، متخذة مقراً لها بمدينة لاهاي في هولندا.
وتباشر المحكمة اختصاصها على أساس مبدأ التكامل؛ إذ تُعد جهة آخر ملاذ، حيث لا تحرك الدعوى من تلقاء نفسها بل تُتيح للدول مباشرة إجراءات التحقيق والمحاكمة في الجرائم الأشدّ خطورة التي تقع ضمن نطاق اختصاصها احتراماً لمبدأ سيادة الدول.
ويُفتتح التحقيق بناءً على طريقتين حددهما النظام الأساسي للمحكمة، ألا وهما: إحالة "حالة"، وتحريك مدعي المحكمة للدعوى من تلقاء نفسه، وذلك بعد التأكد ابتداءً بأنَّ القضاء المحلي غير راغب أو غير قادر على مباشرة المتابعات اللازمة.
حيث تُتاح إحالة "حالة" لكل من الدول الأعضاء في نظام المحكمة، والدول غير الأعضاء التي تُعلن قبول اختصاص المحكمة في قضيّة محددة وضمن اختصاص المحكمة، ومجلس الأمن الدولي في إطار مهام حفظ السلم والأمن الدولييّن الموكّلين له بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
أما الطريقة الثانية فهي "الإحالة" الممنوحة لمدعي المحكمة والمشروطة بتقديم طلب افتتاح التحقيق لدى الغرفة التمهيديّة للمحكمة مثلما حُدّد في نص المادة 15 من الفقرة الثالثة من النظام الأساسي للمحكمة.
رحلة تحريك دعوى التحقيق في أفغانستان
سَلَك ادعاء المحكمة في قضية الجرائم المحتمل وقوعها في أفغانستان طريق تحريك الدعوى، وللتذكير فإن أفغانستان دولة طرف في المحكمة ابتداءً من تاريخ 10 أغسطس 2003، الأمر الذي سمح للمدعيّة العامة السابقة للمحكمة السيّدة فانو بنسودا بعد تحصّلها على أدلة موثوقة من قبل الضحايا وممثليهم تشير إلى احتمال وقوع جرائم شديدة الخطورة وبعد تأكدها بأنّ المحاكم المحلية غير راغبة في إجراء المتابعات اللازمة في حق الجهات المتورطة، فإنها ارتأت بتاريخ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 أن تقدم طلباً لدى الغرفة التمهيديّة من أجل السماح لها بالشروع في التحقيق في جرائم حرب وجرائم ضدَّ الإنسانية يُزعم أنها ارتكبت في أفغانستان ابتداءً من مايو 2003، وجرائم مرتبطة بها يحتمل أنَّها وقعت في دول أعضاء في ميثاق المحكمة على غرار بولندا، ليتوانيا ورومانيا وذلك ابتداءً من يوليو 2002.
وخلصت التحريات التي أجراها مكتب الادعاء إلى التأكد بأن هناك أسساً قويّة للقول بوقوع جرائم دولية تندرج ضمن الاختصاص الموضوعي للمحكمة الجنائية الدولية، ألا وهي:
– جرائم ضدَّ الإنسانية وجرائم حرب، اتهمت بارتكابها عناصر من حركة طالبان وشبكة حقاني المتفرعة عنها.
– جرائم حرب، وجهت أصابع الاتهام بخصوصها لأفراد من قوات الأمن الوطني الأفغاني، لا سيما عناصر المديرية الوطنية للأمن، بالإضافة إلى الشرطة الوطنية الأفغانية.
– جرائم حرب، اتهم بارتكابها أفراد من القوات المسلحة الأمريكية على الأراضي الأفغانية وأفراد من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في معتقلات سرية في أفغانستان وفي دول أخرى تندرج ضمن اختصاص المحكمة.
وبما أن افتتاح التحقيق مُقيّد بإذن الغرفة التمهيديّة للمحكمة والتي ردَّت بتاريخ 12 أبريل/نيسان 2019 بالسلب على طلب التحقيق مبررةً ذلك بمقتضيات مصلحة العدالة، فإنَّ الإجراءات قد عُطلت لحوالي 11 شهراً وهو ما كان بمثابة صدمة بالنسبة لمكتب المدعيّة ولأسر الضحايا وللمنظمات الحقوقية.
وبعد استئنافه للقرار أمام غرفة الاستئناف تحصّل مكتب الادعاء في 05 مارس/أذار 2020 على الموافقة لفتح التحقيق في قضية الجرائم الأشد خطورة المحتمل وقوعها في أفغانستان، حيث يعدّ ذلك سابقة في تاريخ المحكمة سيضعُها وجهاً لوجه مع دولٍ لطالما سعت إلى التملّص من الوقوع في نطاق الاختصاص القضائي للمحكمة وبالخصوص الولايات المتحدة الأمريكية.
طلب تفعيل "الاختصاص الوطني" يُوقِف السير في الدعوى دوليّاً
بالرغم من تأخر القضاء الأفغاني في التحرُّك للتحقيق بشكل جدي في الجرائم التي وقعت ضمن نطاق اختصاصه، لا سيما الواردة ضمن البنود التي حُدِّدَت في طلب افتتاح تحقيق ادعاء المحكمة الجنائية الدولية، فإنّه يمكن القول بأنّ قرار السماح بمباشرة التحقيق في أفغانستان كان بمثابة إلفات للنظر، لم يترك للقضاء الأفغاني حلاً آخر ما عدا المطالبة بحق الاضطلاع باختصاصه بموجب أولويَّة الاختصاص الوطني على اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يعرف بـ"مبدأ التكامل".
حيث قامت الحكومة الأفغانية بتاريخ 26 مارس/أذار 2020، بعد تلقيها إشعاراً بالتحقيق من قبل مكتب الادعاء بإيداع طلب وقف إجراءات تحقيق مكتب ادعاء المحكمة مستندةً على حق القضاء الوطني الأفغاني في الاضطلاع بالتحقيق في الجرائم الدولية الواقعة على أراضيه بموجب مبدأ التكامل وذلك بالاستناد إلى نص المادة 18 فقرة 2 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث أوقَفَ على إثره مكتب الادعاء إجراءات التحقيق مانحاً القضاء الأفغاني الحق في التحقيق في الجرائم الدولية المرتكبة في إقليمه والمندرجة ضمن نطاق المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة .
بعد سقوط نظام الحكم، المحاكمة مستمرة
أدى سقوط الحكومة الأفغانية منتصف أغسطس/آب سنة 2021 إلى انهيار قدرات القضاء الأفغاني؛ الذي كان مخوَّلاً بمباشرة التحقيقات في الجرائم الدولية التي اقتُرِفَت على أراضيه، وأدى ذلك إلى تَعطُّل كل إجراءات التحقيق التي كانت قد بوشرت تحت إشرافه خلال الفترة الممتدة من 26 مارس/آذار 2020 إلى 15 أغسطس/آب 2021، الأمر الذي دفع مكتب ادعاء المحكمة الجنائية الدولية بطلب إعادة مباشرة السير في دعوى التحقيق أمام الغرفة التمهيدية للمحكمة وذلك بعد التأكد من غياب أي تحقيقات جديّة على مستوى القضاء الأفغاني لا سيما في الظرف والتوقيت اللذين تبعا انهيار النظام الأفغاني.
مرّت دعوى التحقيق في أفغانستان بمحطات عديدة خلال الأربع سنوات الأخيرة؛ حيث مُنِح خلال سنتين ونصف منها الفرصة للقضاء الأفغاني كي يباشر اختصاص التحقيق والمتابعة، بيد أن الظروف التي تلت سقوط الحكومة عرقلت التقدم في الدعوى، وعاد ملف القضية اليوم إلى نقطة البداية من دون تسجيل أي تقدم يذكر في التحقيق.
إنّ طلب إعادة السير في التحقيق الذي أوفده مكتب الادعاء بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 2021 تحت رئاسة السيّد كريم خان إلى الغرفة التمهيديّة للمحكمة حمل في طيَّاته مفاجآت عديدة غيّرت كليةً مقاربة التحقيق المتبعة آنفاً من قِبل سلفه السيّدة فاتو بنسودا والتي كانت وراء الطلب الأولي لافتتاح التحقيق في أفغانستان- المودع بتاريخ 20 نوفمبر 2017- وهو الأمر الذي سيُغيّر لا محالة من نطاق ومجرى التحقيق مستقبلاً، وذلك ما سنتطرق إلى فحواه في الجزء القادم من المقال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.