تختلط الأوراق السياسية تباعاً مع عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان وإعادة الحديث عن قرار عزوفه عن الساحة السياسية، والرجل الذي جال على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، سيبدأ اليوم باجتماعات داخلية تشمل كتلته البرلمانية وقيادة تيار المستقبل ورؤساء الحكومات السابقين وبعض القوى والشخصيات السنية، بالإضافة لرئيس مجلس النواب نبيه بري وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، على أن يتخذ في ضوئها قراره النهائي من الانتخابات ترشيحاً واقتراعاً.
وقبيل عودته إلى لبنان تقول أوساط دبلوماسية إن الرجل فاتح قيادات عربية وغربية بقراره العزوف عن الدخول في المعركة الانتخابية شخصياً، وهذا القرار لم يلاقِ استحساناً مصرياً؛ فالقاهرة تخشى من أن يكون غياب الحريري عن قيادة دفة السنة والمستقبل، بوابة لدخول المتطرفين سياسياً ودينياً، فيما الرجل اتخذ مؤخراً من أبوظبي مقراً لـ"البزنس" وسيتوجه بأعماله التجارية إلى القاهرة قريباً، لذا فإن السياسة قد تكون مرحلة وطويت في عمر سعد الحريري.
وفي المحصلة وبلا أي شك فإن جمهور سعد الحريري وتياره هم أكثر المرتبطين بعودته إلى البلاد، وهذا الجمهور الضائع طال انتظاره للرجل والذي غاب خمسة أشهر عن الاحتكاك بهم والتواصل معهم، إذ لا يمكن لهذا الجمهور وكذلك حلفاؤه وخصومه، أن يحددوا مواقفهم السياسية والانتخابية من دون تيار المستقبل وتحديداً وليد جنبلاط ونبيه بري ونجيب ميقاتي. ولا يمكن فصل عودة الحريري عن التطورات التي شهدها البلد منذ قرار الثنائي الشيعي العودة إلى جلسات الحكومة، والحديث عن إعادة ترتيب المعادلات، لذا فإن سعد الحريري المتمسك على الدوام بموقعه في السلطة لن يتخذ قراراً إلا كان مرتبطاً بعودة لاحقة للساحة السنية والوطنية.
والسنَّة في لبنان يعيشون أفظع مراحلهم وأكثرها خوفاً على المصير، لم يشعروا بهذا الخوف من قبل في عز الحضور السوري وتغول حزب الله في الدولة وسيطرة جبران باسيل على المكتسبات السنية، وهذا الشعور مرتبط بالمحيط الهادر، محيط مفجوع ومقهور مورست عليه كل أنواع التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي والقتل والتصفيات من العراق إلى سوريا واليمن.
وهذا الشعور عززته الباصات الخضراء لتهجير قصري في حلب والموصل ومأرب، والخشية السنية من تكرار ما حصل في لبنان، لذا فإن التمسك بسعد الحريري خياراً سنياً لدى شريحة يقال إنها تصل لـ47% من السنة ليس حباً في تجربة الرجل بل هي خوفاً على مصير، وربطاً للنزاع مع عصر الشيعية القادرة في المنطقة بتفويض دولي.
وأمام هذه اللحظة الفاصلة دولياً وإقليمياً في تاريخ مكون أممي مرتبط بدولته الوطنية لا يمكن فصل النقاشات الجارية حول شكل الوطن اللبناني وخريطة النظام القائم على المناصفة وهذه اللحظة ليست وليدة اليوم بل هي وليدة الدقائق الأولى بعد اندلاع ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 حين انقسمت القوى الممسكة بتلابيب البلاد إلى فريقين الأول يعتبر نفسه مجموعة حراس اتفاق الطائف، ويضم تيار المستقبل ومعه رؤساء الحكومات السابقون، ونبيه بري ووليد جنبلاط، فيما مجموعة ما بعد الطائف تتمثل بحزب الله والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، كل وفق نظرته للكيان، وليس بريئاً إعلان الرئيس عون عن طرح اللامركزية المالية في هذا التوقيت الحساس.
فيما حزب الله يحاول باستمرار أن يعمل على الاستفادة من كل الطروحات لتعزيز حضوره حتى انجلاء غبار المناقشات الإيرانية مع واشنطن والرياض، وفي حال انسحاب الحريري تفتقد مجموعة الطائف حليفاً أساسياً ومكوناً مؤسساً للكيان، وتداعيات هذا الخيار ستكون في حال عدم توافر البديل عنه، وهو في النهاية لن يفتح الطريق بيديه لبديل عنه إلا مرحلياً وباتفاق كبير يضمن عودته للزعامة، وهذا الخوف على الطائف سيزيد وليد جنبلاط ونبيه بري صلابةً في التمسك بالحريري، لأنهما يدركان جدياً أن انسحابه سيحدث اختلالاً في التوازن مع الفريق الآخر، وهذا النقاش سيكون مدخلاً لكل نقاشات سعد الحريري مع الحلفاء والأصدقاء وحتى مع الخصوم.
وهناك خيارات يجري دراستها في الخلفية السنية الأولى بتولي الرئيس فؤاد السنيورة إدارة خلية أزمة سنية في الانتخابات القادمة، حيث يتمتع وفقاً لإحدى الدراسات المعدة من قبل شركة أوروبية للانتخابات بشعبية جيدة، وهو في الوجدان السني صلب المراس وتجربة رئاسة الحكومة وصموده الأسطوري في السرايا الحكومي قبيل اتفاق الدوحة يعطي مؤشرات على شخصية الرجل وطريقة تفكيره.
وقد سعى في لقاءاته المغلقة مع الحريري الشهر المنصرم في أبوظبي للقيام بمناورة على الرئيس سعد الحريري؛ حيث جرى نقاش أن يدير غياب الحريري عن الساحة اللبنانية تماماً، كما حدث في السنوات 2011 إلى 2015، واشترط على الحريري السماح له ولبعض فريق "الحكماء السنة" بإعادة هيكلة تيار المستقبل؛ أي يود إبعاد النائبة بهية الحريري ونجلها أحمد عن إدارة التيار بسبب الكوارث التي لحقت بالفريق الأزرق بعد التسوية الرئاسية.
لكنّ الحريري ذا التجارب السيئة مع الصقور في تياره ليس بهذا الوارد، إضافة إلى أن الأخير يرفض الذهاب لصدام ومواجهة مع حزب الله فالخطاب السياسي العالي شيء والممارسة شيء مختلف مع حزب إقليمي مسلح ويمسك بكل الأوراق.
فيما السيناريو الآخر يقول بأن يتولى الرئيس ميقاتي إدارة المرحلة، فهو في موقع الرئاسة الثالثة ولديه ما يؤهله ليكون الأول نتيجة مجموعة عوامل أبرزها أنه في موقعه الحالي في السرايا الكبير بموافقة أمريكية ودعم فرنسي وإحاطة مصرية وقطرية، وله علاقاته بالإدارة الديمقراطية في واشنطن، وهو من حظي بالدقائق الثلاث مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس ماكرون، بعد أسابيع على قطيعة خليجية استطاع ميقاتي الالتفاف عليها بقدرة سحرية، أضِف إلى ذلك أن الرجل لديه شعرة معاوية مع عون وباسيل وتفاهماته مع بري وجنبلاط واتصالاته مع حزب الله وينسّق مع الحريري في كل خطوة استراتيجية.
وبعيداً عن أحد الخيارين فإن خطوة الحريري قد تهدف لإعادة تثبيت حضوره، حتى لو قرر الانكفاء عن الاستحقاق الانتخابي، فقد تكون تلك هي لحظة الانسحاب المرحلي حتى تحقيق عودة آمنة جديدة ممرها الإلزامي قصر اليمامة في السعودية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.