يمكننا اليوم تعريف معظم الأفراد والمجموعات البشرية من خلال جنسيات بلدانها ومواطنها وبشكل دقيق وأكثر سلاسة من أي زمن مضى، ولكن، يبقى حوالي عشرة ملايين إنسان تقوم الأمم المتحدة بتعريفهم بعديمي الجنسية.
وفقاً للقانون الدولي، انعدام الجنسية هو حالة الشخص الذي لا تعتبره أي دولة مواطناً فيها بمقتضى تشريعها، ويعني ذلك أنّ الشخص عديم الجنسية لا يحمل جنسية أي بلد.
أيضاً حسب نفس القانون؛ فإن مصطلح المواطنة والجنسية يشير إلى الصفة ذاتها وهي "الشخصية القانونية" التي تعترف بها الدولة للشخص فيكون قادراً على تحمل الواجبات والتمتّع بالحقوقِ وممارستها.
الطوارق: الشخصية القانونية غير المكتملة
بالنسبة لإثنية الطوارق في ليبيا الوضع القانوني أكثر تعقيداً قليلاً، فعلى وجه الدقة وحسب التعريفات المذكورة أعلاه، لا يمكننا تعريف هذه الفئة المهمَّشة ضمن جماعات انعدام الجنسية بشكل مطلق، ولا يمكننا تعريفهم ضمن جماعات المواطنة بشكل مطلق أيضاً.
فبين هذا وذاك ربما يكمن الوصف، أو يمكننا أن نقول مجازاً إنّ ساقاً على بر المواطنة بسبب اعتراف الدولة للفرد بنصف الشخصية القانونية من خلال تحميله واجبات المواطنة مع منحه بعض المستندات المحدودة، وساقاً أخرى على بر انعدام الجنسية بسبب عدم اعتراف الدولة للفرد بالشطر الآخر من الشخصية القانونية، من خلال حرمانه من التمتع بحقوق المواطنة التي تتطلب إصدار رقم وطني له، أو بالأحرى إصدار مستند الجنسية.
معاناة الاحتياجات الضرورية
يعيش معظم الطوارق في ليبيا بالجنوب ويشكلون الغالبية بمدينتي أوباري وغات وضواحيهما، ولهم كثافة سكانية أيضاً بمدينة سبها، ومعظمهم لا يمتلكون سوى بعض المستندات محدودة الفاعلية وبعضها منتهي الصلاحية ولا يمكن تجديد صلاحيتها، مستندات الميلاد والإقامة وشهادة الوضع العائلي والبطائق الشخصية محدودة العدد ومعظمها منتهي الصلاحية، إنها مستندات لا تضمن للفرد حقوقه كمواطن ولكنها تكفي لتصنّفه ضمن فئة ثالثة بين المواطنة وانعدام الهوية.
يمكننا القول أيضاً بعبارة أكثر بساطة إنه عند الحديث عن الحقوق فالطوارق عديمو الجنسية، بسبب حرمانهم من الحصول على ثبوتيات الهوية وجوازات السفر والأرقام الوطنية، يواجهون مشقة وصعوبة في الحصول على العلاج والتنقل داخلياً واستحالة السفر خارج البلاد، حتى إنّ الكثير من أصحاب الحالات المرضية المستعصية والتي من بينهم أطفال، تتفاقم حالاتهم يومياً بسبب عدم القدرة في الوصول للعلاج الذي في الغالب يشترط السفر إلى الخارج بسبب تدني إمكانيات المستشفيات الليبية، وهو ما يستحيل من دون أوراق.
كما يعانون أيضاً من صعوبة الحصول على التعليم وعلى الخدمات العامة التي تكفلها الدولة للمواطن، واستحالة الحصول على بعضها، كالمعاملات المؤسّساتية البنكية والقطاعية وما إلى ذلك، وأيضاً الحرمان من الحصول على حق الضمان الاجتماعي ومثله من الحقوق التي تتضمنها المواطنة، إضافةً إلى حقّ العمل والتوظف بالقطاعات المدنية للدولة أو حتى الشركات التابعة لدولة أو المتعاقدة معها، فكل ذلك لا يتم إلا من خلال مستند الرقم الوطني الذي يعد بمثابة الجوكر الذي يفتتح ويختتم تقريباً كل المهام والمعاملات في ليبيا.
السجل المؤقت الذي أصبح أبدياً
رئيس مصلحة الأحوال المدنية السيد محمد بالتمر، عبر مقابلة تلفزيونية في بدايات العام المنصرم، صرَّح بشأن جذور المسألة بالنسبة للمصلحة، إذ قال: "إن كل ذلك مربوط بالسجل المدني المؤقت الذي صدر سنة 1970، وإن السجل المؤقت وُضِع من أجل العائدين من المهجر حتى يسجلوا فيه بشكل مؤقت إلى أن يتم تقديم أوراق من ثبت انتماؤهم إلى الأصل الليبي ثم البت في إجراءاتهم".
ويضيف بالتمر: "إن هذا السجل المؤقت أصبح أقدم سجل مؤقت في التاريخ، عمره الآن 49 سنة ولم يتم البت فيه، وهؤلاء الناس ظُلِموا؛ فلم يتم البت في إجراءاتهم وهذا الأمر خارج عن صلاحية مصلحة الأحوال المدنية".
الرقم الإداري: حصيلة محاولة انتزاع للحقوق
في عام 2014، حصل الطوارق على ما يعرف بـ"الأرقام الإدارية" وهي محدودة الفاعلية إلى أن أصبحت اليوم دون جدوى بعد اعتصام حقل الشرارة النفطي الذي دام عاماً بمدينة أوباري، وكانت مطالبهم محددة، حقوقية ودستورية وخدمية، فبعد أن ضاقت بهم الدنيا بما رحبت لم يجد الطوارق أمامهم سوى أن يقفلوا أنابيب مؤسسة النفط التي ترعى أمامهم في الجنوب لتحلب إيراداتها في مدن الشمال.
إن الحقوق تُنتزع ولا تُعطى، هذا لسان حال الشباب والشابات في هذا المجتمع القبلي المهمش الذي لا تعلى فيه كلمة سوى كلمة شيوخ القبائل الذين آثروا الحفاظ على السّلم مقابل الخوض في معارك الحياة الحضرية التي لم يألفوها في الطفولة مع آبائهم فقرروا عدم الخوض فيها.
عمّال من الكادحين وجيش من عديمي الجنسية
ويشكل غالبيةُ الطوارق العظمى في ليبيا طبقةً من العمال التي تعيش بفضل بيع جهدها العضلي والفكري ولا يمتلكون وسائل إنتاج ولا رؤوس أموال، ينخرطون في المصانع والمطاعم والمخابز والمزارع والحِرف وأعمال الأجور، بسبب ضبابية وضعهم القانوني، فلقد ظلّوا مجتمعاً كاملاً شبه غير قادر على الوصول للخدمات العامة أو التمتع بحق التعليم وحق العمل، فهم محصورون في دائرة محددة ومن غير الممكن على الفرد منهم تجاوزها، فهكذا أرادتهم الدولة من خلال عدم استكمال إجراءاتهم القانونية أسوةً بباقي القبائل في الشمال.
فلا يسمح لهم بالوصول لحقوق المواطنة لكن يتم إلزامهم بواجبات المواطنة من خلال الالتحاق بالجيش وحراسة الحقول النفطية والحدود والمراكز الحيوية وحتى الالتحاق بالأجهزة الأمنية داخل المدن، ولكنّ هذا لا يعني أيضاً حتمية الحصول على معاش مستمر من الدولة في ظل عدم توفر مستند الرقم الوطني، هذا الرقم الوطني الذي يتساءل هؤلاء الطوارق- الذين لم يعرفوا وطناً غير هذا الوطن الصحراوي الشاسع- عن ماهية وطنيته مقابل نقوش أبجديتهم التي ما زالت منقوشة على الحجارة والجبال والمباني القديمة والأضرحة، وليس في الجنوب فقط بل في معظم بقاع ليبيا.
هذا في حال كانت أساساً الحقبة الاستعمارية، التي جعلتهم على ما هم عليه اليوم من اضطهاد وتيهٍ بين الدول، حقبةً قديمة جداً لدرجةٍ لا يمكن تذكرها، وتذكر ما حدث فيها من تقسيم لوطنهم الذي عاشوا فيه دوماً دون الحاجة لمستندات هوية؛ إذ إنه حدث حديث العهد لدرجةٍ من المفترض أن تُبقي الطوارق في غنىً عن الاستعانة بنقوش وآثار أسلافهم لغرض إثبات مواطنتهم في هذه الصحراء.
قرارات ووعود وخيبة أمل
قرار 322 لسنة 2021 بشأن تشكيل لجنة مركزية للجنسية تقرر بعض الأحكام، تضمن في فقرته الخامسة، الجزئية التي علق عليها الطوارق آمالهم.
نص الفقرة "القرارات التي صدرت بمنح الجنسية والبت في مدى صحتها".
ولكن، فوجئ نشطاء الطوارق بعد تشكيل اللجنة أن الفقرة الخامسة من القرار التي علقوا عليها آمالهم، غير مدرجة ضمن مهام اللجنة وغير معلنٍ عنها على الصفحة الرسمية لمصلحة الجوازات والجنسية وهي الجهة المنوطة بتنفيذ القرار.
وتجدر الإشارة إلى أن خارطة الطريق للحل السياسي الليبي التي تعهد بها رئيس حكومة الوحدة الوطنية في جنيف بداية العام المنصرم تلزمه بالفقرة 2.8 بوضع حل نهائي لمسألة أصحاب الأرقام الإدارية قبل موعد الانتخابات حتى يتمكنوا من ممارسة حقوقهم في الانتخابات أسوةً ببقية الليبيين.
حراك لا للتمييز ليبيا تجمعنا
حظيت وقفات وتظاهرات حراك "لا للتمييز ليبيا تجمعنا" السلمي، الذي تنظمه مؤسسات مجتمعية ونشطاء مدنيون في الجنوب منذ العام 2020 ولا يزال مستمراً على تضامن شبه شعبي من عدة مدن ليبية وعواصم عالمية وحوالي 58 منظمة ومؤسسة مجتمعية ليبية وشخصيات اعتبارية، تضامنوا مع مطالب الحراك ووقّعوا على عريضة تطالب السلطات الليبية بوضع حد لمأساة الطوارق ومنحهم حقوقهم مثل بقية الليبيين.
وبناءً على ما تتعرض له القرارات التي تصدر في حق الطوارق من عراقيل وضياع بين إدارات الدولة، وعدم جدوى إصدار القرارات وتشكيل اللجان الجديدة التي سيتم التلاعب بها أو توظيفها ألقى حراك "لا للتمييز" بيانه بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني 2022، يناشد فيه ملتقى الحوار السياسي الليبي وبعثة الأمم المتحدة في ليبيا وضع حد صارم ونهائي لما يتعرضون له من إقصاء وتهميش وعنصرية، تكاد تكون بالنسبة لمن يعيشها معضلة أبدية لا مفر منها، كما يقترحون في ذات البيان حلاً يأملون فيه نهاية لمأساتهم وهو مطلب تفعيل لقرارين من حزمة القرارات السابقة التي صدرت في حقهم ولم تفعّل، وهما قرار الجنسية رقم 1055 لسنة 2007 وقرار 328 لسنة 2009.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.