كما وعدت القراء هذه نظرة عامة في كتاب "علم الكلام والمجتمع"، لجوزيف فان إس، ما ترجم منه وما لم يترجم.
الكتاب من ناحية الحجم مكون من ستة مجلدات ضخمة (3760 صفحة) صدرت فيما بين سنة 1991 وسنة 1997. أما من ناحية المحتوى "التاريخي والموضوعي" فالكتاب موزع على أربعة أقسام كبرى ثلاثة منها تاريخية أما الرابع فموضوعي.
أما القسم الأول (A) فعبارة عن تمهيد طويل حول ملامح التدين الإسلامي في القرن الهجري الأول. وفيه يتحدث المؤلف عن: ختم النبوة وتشكيل الهوية الإسلامية ورموزها، والعلاقة بين الفرد والجماعة المسلمة آنذاك. كما يتحدث عن تطورات بداية القرن الثاني الهجري خاصة تلك التي لحقت بصورة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وبالعمل على القرآن، وبانتشار العقيدة الإسلامية، ونشوء النزعة الكلامية.
أما القسم الثاني (B)، والذي يشغل بقية المجلد الأول والمجلد الثاني كله، فيدور حول الأقاليم الإسلامية في القرن الثاني الهجري (الشام والعراق وإيران والجزيرة العربية ومصر)؛ ملامحها العامة وأهم الفرق الناشطة فيها، واستقصاء شامل لأعلام كل فرقة وما بقي من كتاباتهم، والصراعات التي كانت تدور بينهم.
أما القسم الثالث (C) فموزع على المجلد الثالث كله وبعض الرابع ويدور حول موضوعات مثل: وحدة الفكر الإسلامي، وهنا يتكلم عن المراكز الحضارية والدينية المهمة خاصة بغداد، والحرب الأهلية فيها، ثم عصر المأمون الذي تلاها. وهنا يتحدث عن ازدهار علم الكلام الاعتزالي وسطوته السياسية، واستقصاء شامل لأعلامه المؤثرين في الأقاليم الإسلامية. وهؤلاء يتناول أفكارهم بنظرة شمولية، من النظرية الذرية (الجوهر أو الجزء الذي لا يتجزأ) حتى نظريتهم السياسية التي بنوها على أساس من فهمهم لفترة الخلافة الراشدة.
وفي هذا القسم تحديداً يخص ما سُمي بالمحنة بجزء كبير من عنايته، وهذا ما يفعله أيضاً مع أزمة المعتزلة التي لحقت بهم بسبب انحيازهم للسلطة ممثلة في المأمون ثم المعتصم وتسببهم في تلك المحنة.
وعن طريق الدراسة الشاملة والمتأنية تمكن فان إس من نقض كثير من الأطروحات الفاسدة في مجال الفكر الإسلامي، لعل أشهرها الأطروحة الاستشراقية التي تقول بأن الحركات المتطرفة اجتاحت العالم الإسلامي بعد القضاء على الفكر التنويري الحر للمعتزلة والفلاسفة.
من ناحيةٍ لأن أكبر حركة تكفيرية متطرفة في تاريخ الإسلام وهي الخوارج ظهرت قبل وجود المعتزلة بزمن وقبل وجود الفلاسفة أيضاً. ومن ناحية أخرى لأن حركة المعتزلة نفسها عندما اقتربت من السياسة أثبتت أنها حركة متشددة بل متطرفة أحياناً؛ خاصة عندما استخدمت العنف في قمع مخالفيها، بل وقتل بعضهم!
والطريف أن أعلام حركة المعتزلة كانوا يكفرون بعضهم البعض، وقد وصل الأمر بينهم لدرجة تكفير الابن (أبو هاشم الجُبائي) لأبيه (أبو علي الجُبائي). وكان التكفير يتم بسبب اختلافهم حول مفاهيم من قبيل الإيمان والقضاء والقدر وحرية الإنسان. فأي تنوير هذا الذي يمارس العنف والقمع والقتل والتكفير؟!
أما القسم الرابع والأخير من الكتاب (D) فعرض "موضوعي" لإشكاليات الكتاب كله، وفيه يتعرض لرؤية المتكلمين لموضوعات من قبيل: تنزيه الله، وصورة الإنسان، والعلاقة بين علم الكلام والمجتمع. وهنا يقدم فان إس تعليلاً ختامياً لموضوع الكتاب ككل، ويُظهر فيه كيف أن المجتمع الإسلامي المبكر كان أكثر انفتاحاً، ويسمح بمثل هذا النشاط الفكري الذي يُسائل أي شيء، ويُسهم في تشكيل كل شيء، من حياة العامة حتى الحياة في بلاط الخلافة.
وقد اعتمد جوزيف فان إس في عمله الضخم هذا على عدد مهول من المصادر مطبوعة ومخطوطة، وعلى كل ما يمكن تخيله من المراجع العربية والغربية التي تدور حول القرون الأولى للإسلام. وقد شغلت قائمة المصادر والمراجع وحدها ثلاث مئة صفحة. فالكتاب يمثل وبشكل ما إعادة قراءة شاملة للتراثين العربي والاستشراقي في مجال تاريخ الأفكار الإسلامية.
أما المجلدان الخامس والسادس (947 صفحة) فمخصصان لأهم النصوص المصدرية التي اعتمد عليها المؤلف موزعة على أسماء مؤلفيها. وقد اعتاد أن يسبق نصوص كل مؤلف بترجمة له يهتم فيها بذكر ما نسب إليه من كتب ثم يتتبع مسار كل كتاب على حدة. أما فيما يخص النصوص فهو يرقمها ويحررها ويترجمها إلى الألمانية ويشرح صعوباتها. ثم يلحق كل نص بتعليق من فقرة أو عدة فقرات يقارن فيها بين النص المذكور والنصوص الأخرى السابقة عليه واللاحقة به فيوضح كيف تم تأليفه وكيف انسرب في المؤلفات التالية.
وقد كتب كل هذا بدقة أكاديمية معروفة عن هذا الجيل من كلاسيكيي الاستشراق الألماني، ولكنه لا يستخدم فقط أساليب النقد التاريخي والتمحيص الفيلولوجي (اللغوي) كسابقيه، وإنما أيضاً مناهج العلوم الإنسانية الحديثة كالأويل وعلم الاجتماع الديني وهو مجال جد متقدم ومتطور في ألمانيا.
ومما يؤسف له أن كل هذا التراث لجوزيف فان إس لم يترجم منه إلى العربية إلا النذر اليسير. ولولا أن "منشورات الجمل" أخذت على عاتقها مهمة ترجمة هذا الكنز الثمين، أي كتاب "علم الكلام والمجتمع"، لما حظي القارئ العربي بفكرة واضحة عن جهود فان إس ومكانته التي يستحقها عن جدارة ولا ريب.
ولكن لم يصدر من الترجمة حتى الآن إلا الجزءان الأول والثاني. ومؤخراً قرأت تصريحاً على "الجزيرة نت" لصاحب منشورات الجمل (خالد المعالي) يقر فيه بوجود أخطاء أو "هنات" في ترجمة هذين الجزاين. ومن أجل تجنب الوقوع مستقبلاً في مثل هذه "الهنات والإشكاليات" أوضح المعالي "أن ترجمة الأجزاء التالية ستكون بإشراف الدكتور عبد السلام حيدر، وهو سيعيد أيضاً مراجعة الجزأين الأول والثاني بطبعتهما التي ستصدر لاحقاً".
وبعد أن قرأت التصريح الذي أفشى ما كنت أحرص على إخفائه حتى ينتهي العمل، شعرت بحرج من نشر أمثلة للأخطاء أو الهنات في ترجمة المجلدين اللذين صدرا حتى بعد مراجعتهما الأولية.
ولذا سأكتفي هنا بالإشارة إلى أن أخطاء المترجمين الثلاثة، وأخطاء المراجع كذلك، تعود لعدة أسباب سأذكر منها هنا ثلاثة أراها مهمة أو رئيسية، أولها أنهم غير ملمين بتراث الدراسات الاستشراقية عامة وفي مجال علم الكلام تحديداً. ولأن عمل فان إس يعتمد بشكل رئيسي على هذا التراث ويكثر من الاستشهاد به ومناقشته تكررت الأخطاء. أقول هذا ولا أزيد!
أما ثانيهما فعدم الرجوع لأصول النصوص العربية -مطبوعة ومخطوطة- التي اعتمدها جوزيف فان إس، ولو حدث هذا لتجنبنا الكثير من الأخطاء في أسماء أهل الكلام ومصطلحاتهم. وربما استعصى هذا لأن الاطلاع على مثل هذه الأصول كان عزيزاً وقت إنجاز الترجمة. ونعرف أن هذا يعز أحياناً فيما يخص المطبوع والمحقق فما بالكم بالاطلاع على المخطوطات الكثيرة غير المحققة والموزعة على مكتبات العالم!
أما ثالث هذه الأسباب وآخرها فيخص المراجع وحده. فالمراجع يتدخل بتعليقاته في متن الكتاب ويضيف أسطراً من عنده بين قوسين معقوفين يشير فيهما إلى أنه هو المراجع الذي يفعل هذا. وبالتالي أصبح لدى القارئ العربي رقيب على أفكار جوزيف فان إس يقبع بين سطوره ويمارس أستاذية مزعومة عليه. ولا أدري كيف قَبِل المترجمون ودار النشر بهذا؟! ولماذا لم يخبره أحد أن لمثل هذه التعليقات خلقَ الله شيئاً يسمى "الهوامش"!
ومرة أخرى أقول هذا ولا أزيد عليه!
وخلاصة القول -حتى لا أطيل- أن ترجمة المجلدين الأولين من موسوعة "علم الكلام والمجتمع" لا بأس بها من ناحية المعنى، ولكنها تحتاج لمراجعة جديدة ومتأنية على يد متخصص في الاستشراق وعارف بتراث الدراسات الإسلامية في الغرب لعله يستطيع تخليص المجلدين من أخطاء الترجمة والمراجعة.
وفي النهاية لا أملك إلا أن أترحم على المستشرق العلامة جوزيف فان إس، وأرجو عندما تتم ترجمة موسوعته تلك أن يكون هناك احتفاء ثقافي بها وبصاحبها وسلام عليه أنى كان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.