هل دفع إثيوبيا إلى الهاوية واشتبك مع الخليج فعلاً؟ عن تحوّلات دبلوماسية السيسي الأخيرة

عربي بوست
تم النشر: 2021/04/01 الساعة 09:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/04/01 الساعة 09:53 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/ رويترز

صبيحة الثلاثاء الماضي وخلال زيارته لهيئة قناة السويس بعد انتهاء أزمة السفينة العالقة بمجرى القناة، صرّحَ الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، بعدد من التصريحات المهمة التي يجب الوقوف عندها، وعلى رأسها تلك المتعلقة بسدّ النهضة وبدائل قناة السويس.

إذ تُعدّ هذه التصريحات -بلا مبالغة- بمثابة تحول جديدٍ، إيجابيٍّ، في السياسة الخارجية المصرية، بالتزامن مع تغيرات أخرى، تصبّ في معظمها ناحية اتّسامِ الدبلوماسية المصرية في الوقت الراهن بالوضوح والتوازن، إذا ما قورنت بمراحل سابقة من حكم السيسي.. فماذا حدث؟

التهديد العسكري الأول 

من الضروري الإشارة إلى عدة ملاحظات مهمة فيما يخصّ تصريحات السيسي الأخيرة المتعلقة بملف مياه النيل، الملاحظة الأولى أننا بصدد أول تهديد "عسكري" رسمي من السيسي باستخدام القوة العسكرية في هذا الملف.

من قبل، كانت هناك رسائل رسمية مصرية في هذا الصدد، بعضها مباشرة في حضور السيسي مثل الرسائل التي وجهها العقيد ياسر وهبة، الذي يشاع قربه من السيسي، خلال مراسم افتتاح قاعدة "برنيس البحرية" المطلة على حدود مصر الجنوبية والقريبة من البحر الأحمر، عن مركزية مياه النيل في عقيدة الجيش المصري وتأكيده على "دفاع مصر عن حقوقها بكل ما آتاها الله من قوة"، وكذلك تصريحات لوزير الخارجية سامح شكري، وللواءِ أحمد جمال الدين مستشار الرئيس لشؤون المناطق الحدودية، ورسائل غير مباشرة من السيسي نفسه.

العقيد ياسر وهبة

ولكن هذه هي المرة الأولى والأكثرُ وضوحاً وحسماً في وضع القوة العسكرية على الطاولة في ملف "سدّ النهضة"، بعد أن طالبَ السيسي نفسه في مناسباتٍ عديدة بتنحيةِ هذا الخيار عند معالجة هذا الملف إعلامياً، منعاً لإثارة وتوتيرِ العلاقات بين مصر وأشقائها الأفارقة عموماً والإثيوبيين خصوصاً.

ويأتي هذا "التصريح الرسميُّ الأول من نوعه" أيضاً بعد عدد كبير من الرسائل الرسمية غير المباشرة، على غرار المقطع المصور القصير الذي حمل عنوان: "للنسورِ قدرتها أن تفرض كلمتها في معادلة المدى" في إشارةٍ واضحة إلى دخول سدّ النهضة في دائرة الأهداف المصرية عسكرياً. إلى جانب الكشف مؤخراً عن امتلاك صواريخ جوِّ أرض جوالة بعيدة المدى فرنسية الصنع قادرة على اختراق التحصينات على طائرات رافال المصرية، من طراز "ستورم شادو".

يأتي هذا التصريح بهذه الطريقة بعد أن قامتِ القاهرة بمراكمةِ القوة والتقنية والنفوذ الدبلوماسي على مدار السنوات الأخيرة السابقة. ومن التحولات الإيجابية الأخيرة، التطور في العلاقات المصرية السودانية، حيث صارت ترقى، رغم الخلافات القائمة، إلى حالة قريبة من "التحالف الاستراتيجيّ".

الملاحظة الثانية أنه بالرغم من بداهة وبساطة تفسير تصريح السيسي باستخدام القوة العسكرية في هذا الملف نحو سدّ النهضة حصراً، فإنّ السيسي على الأرجح ترك الباب أمام التكهنات حول طبيعة "عدم الاستقرار الذي لن يتخيله أحد"، فيما أعتقد أنه إشارة إلى إمكان توسع مصر في إيذاء إثيوبيا عسكرياً بعيداً عن سدّ النهضة وصولاً إلى باقي المصالح والبنى التحتية الرئيسية في الدولة، باعتبار أنّ المساس بالأمن الحيويِّ الاستراتيجي لمصر في ملف المياه لابدّ أن يقابل بردّ من نفس النوع، قد لا يقتصر على سبب التهديد وحده: سدّ النهضة.

الملاحظة الثالثة، أننا بتنا بصدد ما يمكن تسميته بإعلان القاهرة المنفرد حيال خطوطها الحمراء في ملف مياه النيل بالكامل والذي يتجاوز حتى حدود سدّ النهضة الإثيوبيِّ، فالرسالةُ واضحة: لا مساس بنقطة مياه من حصة مصر في نهر النيل، وهو ما يمتدّ أثره المستقبليّ، وما يمثل "سياسة مصرية جديدة" في الفترة المقبلة تجاه موضوع السدود المبنية على نهر النيل بشكل عام، سواء من إثيوبيا أو من غيرها.

رابعاً، أنّ هذه التصريحات تمثل أول التزامٍ رئاسيٍّ رسميٍّ مباشر من السيسي نحو الحقوق المائية المصرية بعد فترة طويلة من الشكوك المتبادلة بين المصريين والسيسي في هذا الملف على خلفية تورطه في عدة أخطاء سابقة مثل سماحه بالتمويل الدوليِّ للمشروع بعد توقفه لفترة بسبب النزاع بين البلدين في النصف الثاني من 2013 وتوقيعه اتفاقية إعلان المبادئ مارس/آذار 2015 التي نقلت السؤال من مشروعية بناء السدّ دون موافقة دولتي المصبّ إلى السؤال عن طبيعة السدّ، وتحميله -أي السيسي- المصريين المسؤولية التاريخية عن هذا المشروع بسبب الاضطرابات الشعبية في يناير/كانون الثاني 2011.

كما تكرِّسُ هذه التصريحات بوضوح لمسألة عدم التخلي عن أيّ نسبة من حصة مصر في نهر النيل، وإلا استخدمت القيادة السياسية الخيارَ العسكريَّ، وذلك بعد أن أبدى السيسي في السابق غموضاً نحو رأيه في هذه النقطة (حصة مصر من مياه النيل) وما إذا كان "الضرر غير ذي الشأن" الذي أعلن في اتفاقية المبادئ القبول به سيكون مؤقتاً أو ممتداً، وبالأخصّ بعد إفراطهِ في السنوات الأخيرة في الاهتمام بمشروعات تحلية مياه البحر والصرف وتبطينِ الترع وتقنين الزراعات وإعادة هندسة الريف المصري، بما أثار مخاوف المصريين من احتمالية القبول بانتقاصِ حصة من نهر النيل مستقبلاً.

خامساً، أنّ مصر، بتصريحات السيسي، تدفع إثيوبيا إلى حافة الهاوية قبل وقت يسير من المرحلة الثانية من ملء بحيرة الخزان في موسم الأمطار يوليو/تموز القادم، ضمن معادلة جديدة مفادها بوضوح: الملء المنفرد يعني استخدام القوة العسكرية بشكل واسع لا يعرف إلى أي مدى ستصل عواقبه، فإنه بذلك يعرضُ مصالح أصدقائه الخليجيين في إثيوبيا، وفي مشروع السدّ، إلى الخطر.

من ناحية أخرى، فإنه لأول مرة بهذا الشكل يضعُ المجتمع الدوليَّ والمجتمع الخليجيَّ المعروف باستثماراتهِ الزراعية الضخمة في هذه المنطقة، وبالأخصّ الإمارات، وجهاً لوجه مع مسؤولياتهم تجاه الأمن المائي لمصر، بعد سنواتٍ من تقاعسهمِ الواضح عن التدخل واستخدام نفوذهم الاقتصادي للتأثير على إثيوبيا.

اشتباك على ضفة قناة السويس

وقد اختار السيسي مناسبة عودة حركة الملاحة في قناة السويس، والتي أظهرت مركزية مصر في العالم وعواقب عدم الاستقرار بها على الساحة الدولية، لطرح ما أسميه "إعلان القاهرة الجديد" فيما يخصّ ملف "مياه النيل". وقد بدأت بالفعل العواصم الخليجية تستجيبُ لضغط السيسي عليها بالإعلانِ عن دعم مساعي القاهرة للتوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، قبل الملء الثاني للسدّ، وهو ما يمثل نهجاً جديداً أكثر خشونة من جانب مصر في علاقتها بالخليج، وبالأخصّ بعد التوترات الأخيرة بينها من جهة وبين الرياض من جهة وأبوظبي من جهة أخرى، على خلفية عدم اهتمامهما بالمصالح الاستراتيجية لمصر وأكثر من ملف آخر.

سد النهضة الإثيوبي/ رويترز

لا شيء يضاهي في الأهمية ترسيم الحدود الرمزية لمصر وإيضاح خطوطها الحمراء في ملف مياه النيل على نحو ما جرى يوم الثلاثاء الماضي، ولكنّ أحد المستجدات المهمة أيضاً كان ما تطرق إليه حديث السيسي بخصوص البدائل المطروحة لقناة السويس.

أهمُّ ما ورد في هذا السياق كان إظهار السيسي لأول مرة "اشتباك" مصر الخطابيّ، والعمليّ، مع هذه المشروعات المهددة لقناة السويس، وهو وضعٌ متقدم وإيجابي لمصلحة المصريين، إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية أنّ كثيراً من سياسات السيسي تميل إلى دفن الرأس في التراب، عندما يتعلق الأمر بضرورة الاشتباك مع مصالح حلفائه الاستراتيجيينَ في إسرائيل والخليج.

تحدثَ السيسي عن شبكة قطارات فائقة السرعة موازية للممرّ المائيّ، وعن تطوير شبكة الموانئ المصرية لتسهيل الربط بين البحرين المتوسط والأحمر ودعم موقع مصر اللوجيستيّ من هذه الزاوية، وهو ما يعدّ اشتباكاً ثانياً مع المصالح الخليجية الإسرائيلية في هذا المضمار، بعد الاشتباك والتأسيس الأول لحقوق مصر في مياه النيل.

تسامح السيسي مع الخصوم 

ما يعيبُ السردية التي قدمها السيسي بالأمس حول الصراع على تعظيم الأهمية الجيوسياسيّة والجيو-اقتصادية، هو تسامحه مع مشروعات الآخرين التي تهدد مكانة مصر في هذا الصدد، وهو تسامح يفرضه عليه موقعه السياسيّ كنظامٍ لا يمثل، وغير منتخب، من المصريين، ومرتبط بدوائر نفوذ إقليمية يسعى لاسترضائها لأسباب كثيرة تتعلق بالسياسة والاقتصاد.

وأنّ كثيراً من مشروعات تعظيم الموقع الجيوسياسيّ لمصر تدخل فيها حساباتُ معادلة الاقتصاد السياسيّ الخاصة بالنظام في مصر، حيث يستهدف النظام في مصر منذ البداية توزيع المصالح الداخلية على الشركاء الخارجيين بشكل يقلل من احتمالات الصدام معهم مستقبلاً. لذلك، ستجد أن كلّ عملاقٍ من كبريات الشركات الأوروبية قد حصل على نصيب معين من النفوذ في مصر، مثل الإيطاليين في مجال الطاقة والألمان في البنى التحتية والفرنسيين في عقود السلاح، إلى جانب افتقاد كثير من تلك المشروعات إلى دراسات الجدوى الحقيقية، حيث تكلفت مصر 64 مليار جنيه قبل التعويم لشق التفريعة الثانية فيما يساوي دخل القناة خلال عامين تقريباً من نفس الفترة، دون أي عائد حقيقي.

الخلاصة

يُعدّ ترسيم الحدود الرمزية لمصر في ملف مياه النيل أمراً إيجابياً للمستقبل، في ظلِّ مساعي إثيوبيا بشكل رئيسي ورغبة عدد من دول حوض النيل في بناء عدد ضخم من السدود على مجرى النهر خلال الأعوام المقبلة، حيث باتت المعادلة بهذا الشكل: أي تأثير على حصة مصر البالغة 55 مليار متر مكعب مياه تعني استخدام القوة العسكرية من جانب مصر، وهو ما سيوضع في الاعتبار من الآن فصاعداً من جانب كلّ الأطراف.

لأول مرة يشتبك النظام المصريُّ مع مصالح حلفائه الاستراتيجيينَ في إسرائيل ودول الخليج، سواء من جهة مصالحهم غير المباشرة في إثيوبيا أو المباشرة في ملف السدّ، أو من جهة مساعيهم إلى تدشين طرق بديلة للربط بين البحر الأبيض المتوسط وبين البحر الأحمر، بما يؤثر سلباً على قناة السويس.

آبي أحمد وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد

بالرغم من عدم وصول هذا الاشتباك إلى مداه المطلوب بالنظر إلى عدم مراعاة هذه الدول للمصالح المصرية. وبالنظر إلى اعتبارات النظام السياسية التي تمنعه من وصول هذا الاشتباك إلى حدّ الصراع أو إعاقة مخططاتهم الضارة بالبلاد، فإنّ هذا التأسيس وهذا الوعي باختلاف المواقع يعد أمراً محموداً، وبالأخصّ إذا ما نظرنا إليه من عدة زوايا مثل كون هذا النظام غير منتخب ديمقراطياً ومن ثمّ فإن تقليل الخسائر الناجمة عن اعتباراتهِ يعد أمراً مطلوباً، وأنّ هناك مساعي متبادلة إلى فتح قنوات اتصال مع محاور إقليمية منافسة مثل تركيا.

من المتوقع بعد هذا التصعيد أن تقوم الدول ذات النفوذ في إثيوبيا بالضغط على أديس أبابا حتى لا تتعرض مصالح هذه الدول إلى الضرر سواء في مشروع السدّ أو غيره، وعلى الأرجح سنشهدُ مخاضاً صعباً خلال الأسابيع القادمة سينجمُ عنه اتفاقٌ تاريخي على ملء وتشغيل السدّ، إذ من غير المنطقيّ أن تصرّ أديس أبابا على اختبار القوة العسكرية المصرية في ظلِّ وضع داخليّ وإقليميّ مضطرب داخلها، وفي ظلِّ تسامحٍ مصريّ مبكر تجاه مسألة "الضرر غير ذي الشأن" بشكل مؤقت وفقاً للإطار الذي وضعته مصر من ضرورة عدم تأثر حصتها من المياه بشكلٍ دائم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد