حين خرج المصريون ثائرين إلى شوارع القاهرة والمدن الكبرى منذ عشر سنوات كانت دوافعهم إلى ذلك متعددة: حالة الاستبداد المزمنة، والفساد وغياب الحوكمة الرشيدة، وتزايد الفجوة بين الطبقات مع تراجع قدرة الدولة على أداء وظائفها الاجتماعية، والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان، والسياسات المتواطئة لنظام مبارك مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، والأهم ربما كان انعدام الأفق لمستقبل أفضل لقطاعات واسعة من الشباب هم الفئة العمرية الأكبر بين فئات الشعب المصري. تلقائية الحالة الثورية وسرعة تمددها جعلتها أشبه بزفرة غضب ويأس طال احتباسها في صدور المصريين، بحيث كان انطلاقها بكل هذا العنف مفاجأة للثائرين أنفسهم بقدر ما فاجأت النظام الاستبدادي الحاكم.
كان الاصطفاف حينها واضحاً، والتصورات حول المستقبل المنشود طموحة وبسيطة إلى حد السذاجة، لكن كما كان هذا الوضوح وهذه البراءة قادرين على إلهام الجماهير وتوحيدهم في أيام الثورة الأولى، كانا كذلك السبب في تعثر المسار الانتقالي وفشله في النهاية، حين اكتشف الثائرون أن الواقع أكثر تعقيداً مما يظنون، وأن المطالب المتفق عليها لا تتمتع بذات القبول أو لديها نفس التفسير عند الجميع، وأن قدراتهم على الحلم تتجاوز كثيراً جداً قدراتهم على الفعل.
بعد عامين ونصف فقط، سقط المصريون المنهكون من ارتباك مسار الثورة والمحبطون من انكشاف الحلم مرة أخرى فريسة سهلة للسلطوية والاستبداد، ومنذ ذلك الحين، يمكن القول إن الاصطفاف السياسي في مصر صار مركباً وفق محورين: الاستبدادية الدولاتية في مقابل الديمقراطية، والمدنية (أو إن شئت العلمانية) في مقابل الإسلاموية.
وسريعاً نجحت القوى الدولاتية المستبدة من الهيمنة على المجال السياسي وهمشت باقي القوى السياسية الأخرى بدرجة شبه كاملة. هذه القوى تشمل بالأساس مؤسسات الدولة العميقة، وعلى رأسها القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والمؤسسات القضائية، والتي استخدمت جهاز الدولة البيروقراطي، وواجهة من الأحزاب الشكلية التي تأسست في أعقاب انقلاب 2013، مثل حزب مستقبل وطن، بالإضافة إلى مجموعة من الأحزاب القديمة التي اكتفت منذ عقود أن تعيش في كنف مؤسسات الدولة، وتيار من الإسلاموية الاستبدادية (حزب النور نموذجاً).
تدريجياً هيمنت هذه القوى ليس فقط على المجال السياسي، بل تجاوزته إلى المجالات الأخرى الاقتصادية والثقافية والإعلامية والدينية، كما أعادت بناء شبكة العلاقات الزبائنية والمحسوبيات لنظام مبارك بواسطة هذه الأحزاب الجديدة.
ويمكن تفسير قدرة القوى السلطوية الدولاتية على هذه الهيمنة بعدة عوامل:
أولاً: تراكب السلطوية الجديدة من مستويات ثلاثة: تغول الدولة المصرية ومؤسساتها على المجتمع وأبنيته، ثم تغول العسكريين والأجهزة الأمنية على جهاز الدولة البيروقراطي ومؤسسات الحكم المحلي، ثم هيمنة الرئيس الشخصية عبر رجال ثقته من أصدقائه وأبنائه على هذه الأجهزة الأمنية.
ثانياً: قدرة القوى الاستبدادية الجديدة على التلاعب الأيديولوجي بالجماهير عبر إصدار نسخة رديئة من الوطنية الشوفينية، وإعادة تعريف الحرية بما يتجاوز الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والشخصية إلى مفهوم مشوه من الاستقلال الوطني، والتحشيد ضد قوى أجنبية ومؤامرات خارجية وطابور خامس يدعمهم من الداخل.
ثالثاً: استغلال حالة الصدمة التي يمر بها الشعب المصري بسبب ارتفاع مستوى التوحش والعنف سواء في الحروب الأهلية التي انتكست إليها الثورات في دول الجوار، أو حتى في مصر خلال فترة الانقلاب وما تلاها على يد الأجهزة الأمنية أو التنظيمات الإرهابية، والتخويف من الفوضى في ظل غياب البدائل، وفي ظل تشرذم وغياب الثقة بين الفواعل السياسية والاجتماعية في مصر.
أخيراً: استفادة هذه القوى من التراجع الشديد لجاذبية النموذج الديمقراطي الليبرالي حول العالم مع صعود النموذج السلطوي الذي تعبر عنه دول مثل الصين وروسيا، ومن الدعم الاقتصادي والدبلوماسي السخي الذي قدمته السلطويات التقليدية في المنطقة، فضلاً عن دعم الأحزاب والحكومات اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
مشكلة القوى الديمقراطية في مصر مع هذا النظام السلطوي الجديد ليست فقط قيمية نظراً لانتهاكاته الجسيمة والمنهجية للحريات والحقوق السياسية والاجتماعية، أو لسياساته الاقتصادية التي زادت من أعباء المصريين ومن مديونية الدولة المصرية بشكل غير مسبوق، أو لسياساته الخارجية المتواطئة مع إسرائيل، وإضراره بالأمن القومي المصري في قضايا حيوية مثل جزيرتي تيران وصنافير وسد النهضة، كل ذلك على خطورته– من وجهة نظري– يأتي تالياً لمشكلات أكثر جدية ينتجها هذا النظام، فمن العجيب أن هذا النظام الذي جعل الحفاظ على الدولة واسترداد هيبتها مسوغاً للتغول على المجتمع وقمع الحريات الذي تتعرض الدولة المصرية في عهده إلى تآكل متزايد في مؤسساتها وبالتالي في شرعيتها، فالنزعة السلطوية الشخصانية والهيمنة على المؤسسات السيادية بـ"شلل مصالح"، وتدخل الأجهزة الأمنية في اختيار الكوادر بناء على الثقة والانصياع لإملاءات هذه الأجهزة وليس معايير الكفاءة، والضغط المتزايد لتقليص ما تبقى من استقلالية لبعض هذه المؤسسات مثل القضاء أو الأزهر، كل هذا يحقق عكس المقصود الذي يدعيه هذا النظام.
كذلك من الإشكاليات الكبرى التي ينتجها هذا النظام هو الإضرار بالنسيج المجتمعي وتماسكه، وخلق ثارات مع أطياف سياسية مثل الإسلاميين أو جهوية مثل قطاعات من أهل سيناء، وإضعاف البنى الحزبية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني، بحيث لم يعد في دولة يفوق سكانها 100 مليون نسمة تنظيم مجتمعي واحد مستقر وفعال، وصارت
هذه البنى الاجتماعية إما صغيرة وهامشية وليست ذات تأثير، أو صورية ومخترقة وموجهة من قبل الأجهزة الأمنية. هذه السياسة المنتظمة التي تبنتها الدولة المصرية منذ بداية الجمهورية بدرجات متفاوتة وكانت مسؤولة عن التجريف السياسي والاجتماعي وتقزيم النخب المصرية في كافة المجالات وصلت إلى مداها تحت النظام السلطوي ما بعد 2013.
ولذلك فإن قضية الديمقراطية في مصر تواجه تحدياً حقيقياً ليس فقط في الوقت الراهن بل في المستقبل كذلك بسبب ما ينتج عن هذه السياسات المخربة من تفخيخ لهذا المستقبل، إما بالتوترات والاستقطابات المجتمعية، أو بتغييب الشروط الموضوعية لإقامة نظام ديمقراطي والمتمثلة في بناء مؤسسات دولة ذات استقلالية ومشروعية وثقافة دستورية، وكيانات مجتمعية وحزبية قادرة على تجميع المصالح والتعبير عنها، ونخبة تتمتع بالكفاءة والجماهيرية، وثقافة مدنية تدعم هذه البنى والمؤسسات كلها.
غياب هذه الشروط الموضوعية يهدد بإهدار أي فرصة للتحول الديمقراطي مستقبلاً، إذ سينتج عن ضعف البنى المؤسسية والثقافة الديمقراطية عدم القدرة على تنظيم وإدماج الجماهير في العملية السياسية، بما سيؤدي إلى اضطراب المرحلة الانتقالية مرة أخرى، ومن ثم السقوط بين خياري الاستبداد أو الفوضى من جديد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.