في منتصف فبراير/شباط عام 2012، أي بعد الثورة بعام واحد فقط تقريباً، شنت قواتُ الأمن المصرية هجوماً عنيفاً، حقيقةً لا مجازاً، على مقارّ عدد كبير من جمعيات المجتمع المدني ذات الصلة بالخارج.
لم يكن هذا الهجوم مجرد تدافُع روتيني بين الدولة العميقة ونشطاء الثورة، وإنما كان جرسَ إنذار بأن هناك تعاملاً جديداً من الدولة مع هذا النوع من الأنشطة السياسية الشبابية ذات التوجهات الليبرالية المنظمة.
على أرض الميدان، قاد الهجومَ عناصر من الجيش، الشرطة العسكرية تحديداً، في الإعلام والصحافة تصدّرت الحملة امرأةٌ عجوز، متعلمة جيداً، تمثل البيروقراطية البرجوازية المصرية، وهي وزيرة التعاون الدولي، فايزة أبوالنجا، وكانت حصيلة الحملة النهائية أكثر من 40 معتقلاً، بينهم نحو 20 أمريكياً، منهم نجل وزير النقل في الحكومة الأمريكية وقتها.
نظرتِ الدولة العميقة، والجيش تحديداً، إلى هذا النوع من الشباب، الذي يتصل مع الخارج، على أجندة سياسية، لا أجندة شخصية استثمارية كما هو معتاد، على أنه الجناح الآخر، بجانب الإخوان المسلمين، الذي ساهم في "إنجاح" الثورة. فأسباب الثورة شيء، والقدرة على إنجاحها شيء آخر، والنجاحُ هنا في إجبار المؤسسة الرئاسية على التنحي عن المشهد، ومحاولة إجبار المؤسسة العسكرية على نفس الأمر. كما نظرت إلى الإدارة الأمريكية بعين الريبة، والغضب، حيال هذا الأمر، لأن سياستها الخارجية منحت هذه الفئة من الشباب الثقافة والخبرة، إلى جانب القوة والتمويل.
تُكثِّف أبوالنجا، التي وُصفت إبان هذه الفترة بأنها امرأة هزت عرش أمريكا، هذا الشعور لدى الجيش بالغضب من هذا التيار، ومن داعميه في الخارج، في عدد من التصريحات الصحفية، وفي شهادتها أمام القضاء في نفس القضية التي أثارت ضجة بخصوص تسييس القضاء وخضوعه للجيش، حتى بعد انتقال السلطة إلى الإخوان، بقولها إن أمريكا استقطعت أموالاً كبيرة من مخصصات المعونة الاقتصادية التي تحصل عليها مصر منذ معاهدة السلام، لتمنح إلى جهاتٍ غير مسجلة لدى الدولة المصرية، هذه الأموال للمساعدة في تخريب الداخل المصري، وقد حصلت هذه الجهات، في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أبريل/نيسان في عام الثورة على أكثر من 150 مليون دولار أمريكي، بحسب أبوالنجا.
كان الجيش يراقب هذه التدفقات المالية، ولكنه لا يقدر على منعها، لأن إدارة أوباما كانت تردّ عليه بأنها موجهة إلى شباب داعم للديمقراطية، ضمن منظومة مالية مصاغة منذ أكثر من 30 عاماً، والجيش ليس مؤسسة سياسية منتخبة كي يحق له منعها. وفي عهد مبارك، كانت إدارة "بوش"، التي بدأ في عهدها هذا النوع من الدعم، ضمن مساعي "دقرطة العالم العربي"، أكثر صرامةً في وجه الإدارة المصرية لتمرير هذا الدعم، وهو أحد أسباب الشقاق العميق الذي حصل في العلاقات الثنائية في هذا التوقيت، كما أن البيروقراطية المصرية لم تكن تتخيل أن يسهم هذا الدعمُ في هذه النتيجة: تهديد بنية مؤسسات الحكم. واضطر الجيش، أيضاً، بسبب ظروف اللحظة التاريخية إلى تسفير الأمريكيين المعتقلين على متن طائرة أمريكية أقلتهم لبلادهم من القاهرة، في عمل لم يخلُ من الإهانة والسخرية من ضعف منظومة الحكم في مصر، خاصة بعد أن أكَد أكثر من وزير، منهم فايزة أبوالنجا نفسها، أنهم لم يكونوا على علم بقرار ترحيل الأجانب.
السيسي وحروب الجيل الرابع
بعد الانقلاب العسكري، في يوليو/تموز 2013، كان الجيش قد أعد تصوراً متكاملاً عن طريقة إدارة البلاد، بشكل لا يسمح بإعادة تكرار ما جرى، في يناير/كانون الثاني 2011، بدايةً من التحالفات الخارجية مع دول الثورة المضادة الغنية بالنفط والمال، ودعم اليمين في الخارج، وإعادة توسيع دائرة التحالفات الخارجية لتشمل روسيا والصين، بجانب الولايات المتحدة وأوروبا، خلافاً لما كانت عليه الحال في فترة مبارك، وصولاً إلى استقطاب وتنظيم الفئات الشابة التي كانت تدعم الدولة إبان الثورة والمجلس العسكري على استحياء، لتكون عوناً له في معركة "تشكيل الوعي" على الواقع الافتراضي. في كلمته المصورة التي بثها السيسي بالبدلة العسكرية لإعلان الترشح للرئاسة 2014، قال السيسي نصاً إن ما كان يحدث في الماضي من انتهاك لسيادة الدولة المصرية لم يعد مقبولاً بعد الآن، وبعد توليه السلطة بات التحذير من "حروب الجيل الرابع"، وهي الوجه الآخر لمحاولات التغيير السلمي المنظم من الداخل، جزءاً رئيساً من الأجندة الخطابية للدولة، وبعد سنتين من أزمة قضية منظمات المجتمع المدني والتدخل الأجنبي، عيَّن السيسي السيدة فايزة أبوالنجا مستشارةً شخصية له لشؤون الأمن القومي.
دولة السيسي والتيار الحقوقي
يشرح لنا ما سبق كيف تنظر الدولة العميقة إلى هذا النوع من الشباب، وجذور العداء بينها وبين التيار الحقوقي المتصل بالخارج، وكيف تحينتِ الفرصة للانقضاض على عناصر تشكيل مشهد الثورة، عنصراً بعد الآخر، لتقضي عليهم جميعاً، منعاً لتكرار الحدث، الذي أخذ السيسي على نفسه عهداً على الهواء بضمان عدم حدوثه. ولكن، السؤال المطروح حالياً، اتصالاً بالحملة التي شنها النظام المصري على قيادات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مؤخراً: كيف يقدم السيسي على فعل يعلم أن عواقبه قد تكون وخيمة؟
والإجابة، وهي إجابة مركبة، أن هناك بعضاً من المبالغة في تقدير الدور الخارجي الذي يمكنُ أن يُلعب ضد النظام المصري. ولعل ما كتبه الرئيس الأمريكي الأسبق، وأحد أكثر الرؤساء جدية ووفاءً للقيم الأمريكية الداعمة للديمقراطية وحقوق الإنسان، باراك أوباما، في كتابه الأخير الذي يلخص تجربته في حكم الولايات المتحدة، لمدة 8 أعوام، في محاولة ممارسة الضغط على نظام مبارك الضعيف، مقارنةً بحكم السيسي، ينضح بقلة الحيلة. الرئيس يريد، وبعض من فريقه الرئاسي يريد، وهناك خطواتٌ ما تتخذ، ولكن الواقع أقل من المأمول، يسبب عدم وجود خطة، أو تأثير التحركات المقترحة على المصالح الأمريكية، أو مخالفة المرغوب فيه للأعراف الدبلوماسية.
ودعني أذكرك أيضاً كيف تحولتِ هرطقات اللواء مختار الملا، عضو المجلس العسكري أيام الثورة، عن التمويل الأجنبي، ومنظمات المجتمع المدني، واختلاف مفاهيم حقوق الإنسان والأولويات بين الشرق والغرب، حتى تدرك التحولات في الموقف المصري إيذاء هذا الملف في السنوات الأخيرة، إلى أجندة عمل خطابية يفرضها السيسي على إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا، مهد التنوير السياسي والثقافي الأوروبي، على الهواء مباشرة، بعد أعوامٍ من الثورة، ثم أمام جحافل الأوروبيين، في شرم الشيخ، خلال استضافة مصر أحد الأنشطة السياسية العربيَّة الأوروبية، بعد موجة الإعدامات الأخيرة، منذ نحو عامين. وقد قررت ألمانيا منذ أيام قليلة بيع النظام المصري عدداً من الزوارق البحرية التي تعذَّر بيعها للسعودية بسبب كوارثها في حرب اليمن، وجرى اتصالٌ تليفوني بين السيسي ورئيس الوزراء الإيطالي بالتزامن مع حملة الاعتقالات الأخيرة، كان موضوعه تدعيم العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين البلدين، ولم يتعرضا خلاله إلى أزمة "ريجيني" إلا بمقدار تذييل بيان تغطية المكالمة في آخر سطر، ولم تستطع واشنطن، إلى الآن، تنفيذ ما لوحت به من فرض عقوبات عسكرية على النظام المصري بسبب مخالفته قانون "كاتسا"، الذي ينص على معاقبة من يتعاون مع أعداء الولايات المتحدة الخارجيين، فيما يخص تعاقد القاهرة على شراء طائرات مقاتلة شديدة التطور من روسيا طراز "سو- 35".
العالمُ الغربي غير راضٍ عما يفعله السيسي في ملف حقوق الإنسان، ولكنهم سعيدون بشرائه كمياتٍ من السلاح الذي تنعش عوائده خزائنهم، ومرتاحون لنجاحه في السيطرة على ملفات الهجرة غير الشرعية، ومكافحة الإرهاب، وحماية الأقباط، والاستقرار الاقتصادي النسبي، والحفاظ على أمن إسرائيل. ومضطرون للتعامل معه بسبب سيطرته شبه المُطلقة على الأمور في الداخل المصري. وقد نجح السيسي، في حملته العقابية الأخيرة لقيادات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية على لقائهم بالسفراء الغربيين، باختيار وقتٍ "ضبابي" يتأرجح بين انتصار بايدن في الانتخابات وعدم توليه مقاليد الحكم رسمياً.
بالفعل قد يكلفه ذلك عقاباً مؤجلاً، ولكن النظام يشعر بأنه سيكون، إذا حدث، في حدود الممكن امتصاصه، بالنظر إلى أهميته لدى الولايات المتحدة، وتطور قوته الداخلية، واستعداده النفسي إلى تقديم تنازلاتٍ شكلية مستقبلاً، كأن يُفرج عن بعض الأشخاص، الذين يُطلب منه الإفراج عنهم، ولكن بعد تأديبهم، والتأكد من أن هذا الإفراج سيكون مُرضياً، شكلياً، لصورة صانع القرار الغربي. وقد كان مبارك نفسه منفتحاً على خيار التخلي عن المعونة الاقتصادية، مقابل ألا يذهب قسط منها لهذه المنظمات.
اختصاراً، النظام المصري بات يشعر بفوائض قوة، في مواجهة التدخلات الخارجية، غير الجادة، من أجل الديمقراطية، ولا يجد مانعاً أخلاقياً في توظيف حنكته السياسية للانتقام من بعض الشباب الذين التقوا عدداً من ممثلي الدول الغربية؛ لأن عواقب التغاضي عن هذا السلوك، بالنسبة له، ستكون أفدح، من عواقب عقابهم؛ لأنه يشعر بالتهديد من أي نشاطٍ سياسي جاد، ولو كان بسيطاً.
ونتذكر جميعا قضية "الأمل، وكل تصوراته عن الوضع السياسي المثالي للبلاد بعد الثورة، إلى الآن، تنحسر في الأيقونات الرئيسية التالية: السيسي، والجيش، ومؤسسات شكلية تقوم بدور تخديمي لإنفاذ إرادة هاتين الأيقونتين، التي قد تتقاطع أحياناً مع مصلحة البلاد، وقد لا تتقاطع في كثير من الأوقات.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.