في شهر يونيو/حزيران الماضي نشرت وكالة رويترز تقريراً عن شروع السلطات الأمريكية في إجراء تحقيق حول صفقات مشبوهة بين قائد ميليشيات شرق ليبيا اللواء خليفة حفتر، مع نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو عقب إعلان السفارة الفنزويلية في واشنطن عن زيارة غير معلنة لطائرة خاصة من طراز داسو فالكون 900 تحمل رقم التسجيل "P4-RMA" في مطار "سيمون بوليفار" بمدينة "مايكيتيا" القريبة من العاصمة كاراكاس، وهي ذات الطائرة التي ظهر بها كثيراً الجنرال الليبي في زياراته الخارجية، مما طرح العديد من التساؤلات عن مبررات تلك الزيارة السرية.
بالتحري أكثر عن الطائرة وجد أنها تتبع شركة "سونيغ إنترناشيونال برايفت جت"، وهي شركة نقل جوي وتأجير طائرات خاصة مقرها إمارة الفجيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة ولا يعرف عنها الكثير، غير أن اسمها كان قد ورد في العديد من التحقيقات التي أجرتها الأمم المتحدة بشأن انتهاك القرارات الدولية الخاصة بحظر التسليح في ليبيا، حيث كانت قد تورطت سابقاً في عمليات نقل أسلحة لحفتر من الدولة الخليجية. تقرير رويترز لم يقف عند هذا الحد، حيث تتبعت الوكالة عبر موقع فلايت رادار -المعنيّ بمراقبة حركة الطيران- رحلة الطائرة ليتبين أنها أقلعت بالفعل من مطار "بنينا" في بنغازي إلى مطار "سيمون بوليفار" وذلك عبر مطار "أم التونسي" الدولي بالعاصمة الموريتانية نواكشوط. غير أن منظمة C4ADS غير الربحية لتتبع الرحلات الجوية كشفت عن كون تلك الرحلة ليست الأولى من نوعها فقد سبقتها رحلات عديدة بنفس الطائرة كانت آخرها في 24 أبريل/نيسان الماضي.
وفي شهر يوليو/تموز المنصرم كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية اللثام عن غموض تلك الرحلات حين تحدثت عن صفقات يقوم من خلالها حفتر بشراء الذهب الرخيص من الدولة الخاضعة لعقوبات من الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة في قطاعي النفط والتعدين. ذكرت الجريدة أن حفتر يدير عمليات لشراء الذهب الفنزويلي نقداً بالدولار ونقله لإحدى دول غرب إفريقيا ليتم صهره وإعادة تشكيله ومن ثم تصديره للأسواق العالمية بشكل عام وإلى أسواق دبي بشكل خاص تحت إشراف مباشر من صدام خليفة حفتر، وهو ذاته المسؤول والمشرف الأول على عملية تجارة النفط غير الشرعية، كما سبق أن كشف تقرير لجنة خبراء صادر عن الأمم المتحدة، عن تورط صدام حفتر بسرقة أموال حكومية في نهاية عام 2017 وذلك خلال عملية نفذتها مجموعة تابعة للكتيبة 106 للسيطرة على فرع مصرف ليبيا المركزي وسط مدينة بنغازي، بالإضافة إلى تورطه أيضاً في عمليات غير مشروعة لتهريب الخردة والنفط ومشتقات بترولية من منطقة الهلال النفطي. ونقلت الصحيفة عن مصدر ليبي قوله إن حفتر لم يكن على متن الطائرة، لكن نجله الصديق حفتر والمدني الفخري الذي يحمل رتبة عقيد في سلاح الجو ويرأس لجنة الاستثمار العسكري التي تدير الشؤون الاقتصادية والمالية هما من كانا على متن الطائرة، مؤكداً أن هذا يشير إلى الطبيعة الخاصة للرحلة.
ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تفرض عقوبات اقتصادية صارمة على الدولة البوليفارية منذ 2017 بدعوى تزوير الرئيس اليساري نيكولاس مادورو للانتخابات وانقلابه على الأطر الديمقراطية، وهو ما أسفر عن أزمة اقتصادية خانقة في البلد صاحب أكبر احتياطي نفطي في العالم، ما دفع الدولة لتسيل رصيدها من الذهب في محاولة منها لتلبية الاحتياجات الأولية لمواطنيها في ظل أرقام تضخم غير مسبوقة في التاريخ وعجزها عن استخراج نفطها أو بيعه في الأسواق الدولية نتيجة العقوبات، وهو ما أحدث عجزاً هائلاً في المشتقات البترولية والأدوية والسلع الأساسية. وأمام تلك الضغوط لم يجد النظام الحاكم سوى استغلال الوفرة العالية من المعدن الأصفر في مناجم البلاد، فعمل على إطلاق العنان لعصابات مسلحة تقوم بتسخير المواطنين للعمل في المناجم، حيث شوهد أطفال لا تتجاوز أعمارهم تسعة أعوام يعملون كرهاً في المناجم، وفقاً لتقرير صادر عن مفوضية حقوق الإنسان. وتحدث التقرير عن عمليات قتل وتعذيب وبتر للأعضاء لترهيب المواطنين وجعلهم يعملون ليل نهار في ظروف غير آدمية لاستخراج الذهب.
عوداً إلى الحدث الليبي، فإن إقدام حفتر على مثل تلك العمليات المحفوفة بالعديد من المخاطر الدولية يدل على مدى الصعوبات والتحديات الكبيرة التي يواجهها.
فهو من جهة متيقن بأنه في حال استمرار خسائره العسكرية أمام قوات الغرب وحليفتها تركيا، ستسقط عنه حماية داعميه وقد تفرض عليه عقوبات دولية وتعقب للأموال التي نهبها من دماء الشعب الليبي، لذلك فإنه يسعى لحفظها في صورة سبائك ذهبية قد يسهل بيعها دون تتبع مصدرها لاحقاً، كما أنه من خلال عمليات التهريب تلك يجني المليارات سنوياً والتي يمكن أن يستخدم جزء منها في إرضاء القبائل المتحالفة معه ودفع رواتب الجيش وأجور المرتزقة من روسيا وتشاد والسودان بل وحتى سوريا.
غير أن صحيفة إندبندنت البريطانية ترى أن دور حفتر في أغلب تلك العمليات يقتصر على الوساطة لصالح مشترٍ آخر. فالرجل يفتقد على ما يبدو إلى أدنى مؤهلات الكفاءة المطلوبة في أي من الأعمال التي توكل إليه حتى العسكرية منها، ومن غير الوارد أن تتم المجازفة بهذا الحجم وبتلك التقنيات وتنجح حتى الآن في تجنب العقوبات الدولية إن لم تكن بالفعل تتم إدارتها من قِبَل دولة متمرسة في تلك الأنشطة وتتمتع بقدر أكبر من الحصانة.
وبالفعل فقد كشفت جريدة لوموند الفرنسية أن طائرة حفتر في عودتها من كراكاس توقفت في العاصمة الغينية كوناكري، وفي ذات المكان هبطت طائرة خاصة أخرى تابعة لشركة "أجنحة الخليج" الإماراتية قادمة من إمارة دبي عبر باماكو، وقد اجتمعت الطائرتان في الوقت نفسه، مما دفع الجريدة للتساؤل هل هذا التزامن هو من قبَل الصدفة؟ لم تكتفِ لوموند بهذا بل كشفت أن الشركة الإماراتية المشغلة للطائرة خدمت كواجهة لعملية واسعة للنقل غير المشروع بطائرات خاصة، لتهريب الأموال والمجوهرات بين جنيف ولواندا لصالح شخصيات أنغولية، وأدانت النيابة العامة في جنيف مالكها ريكاردو مورتارا عام 2008 بتهمة غسل الأموال.
لم تكن تلك المحاولة الأولى للإمارات للحصول على حصة من الذهب الفنزويلي الرخيص الممزوج بالدماء، فقد سبق أن أعلنت شركة "نور كابيتال" في أبوظبي، أنها اشترت ثلاثة أطنان من الذهب من البنك المركزي الفنزويلي في يناير/كانون الثاني 2019، تلا ذلك بأيام إعلان مسؤول فنزويلي كبير أن كاراكاس ستبيع 15 طناً من احتياطي البنك المركزي من الذهب إلى دولة الإمارات العربية المتحدة مقابل سيولة نقدية باليورو بهدف توفير الاحتياجات الضرورية للشعب.
يأتي ذلك رغم فرض الولايات المتحدة عقوبات على مبيعات الذهب الفنزويلي منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2018 وأكدت ثلاثة مصادر مطلعة لـ"رويترز"، رفضت نشر أسمائها بسبب حساسية الوضع، أن مسؤولَين اثنين على مستوى عالٍ في البنك المركزي الفنزويلي اضطرا للاستقالة لأنهما لم يوافقا على بيع الذهب. وهو ما دفع السيناتور الجمهوري عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو للكشف عن تقارير حول خطة لتهريب شحنات ذهب من فنزويلا إلى الإمارات.
وقال روبيو إن مواطناً فرنسياً يعمل لدى شركة "نور كابيتال" الاستثمارية الإماراتية هو في كاراكاس لترتيب سرقة المزيد من الذهب من فنزويلا.
بدا للجميع أن حفتر ورقة في طريقها للاحتراق في قادم الأيام في ظل خسائر عسكرية متوالية في الغرب والوسط الليبي مع مستقبل قريب ملبد بنذر انشقاقات قبلية في الشرق الليبي، وهو على يقين بأن سقوطه أو استبداله قد يفتح عليه أبواب العديد من القضايا الجنائية في الداخل الليبي أو على الصعيد الدولي، فالرجل متهم بالفعل في العديد من قضايا جرائم الحرب والمجازر الجماعية وحملات القتل خارج القانون، بالإضافة لقضايا فساد وتجارة أسلحة وصفقات بيع نفط خارج المؤسسات الرسمية، لذا فهو لم يجد حرجاً في إضافة تهمة غسل الأموال لقائمة جرائمه الطويلة مقابل الحصول على تمويل لحملته العسكرية الفاشلة ومحاولة أخيرة ليثبت لداعمه الخليجي أنه لا يزال قادراً على أن يكون مفيداً ويحقق مصالحهم في ليبيا.
أما النظام الحاكم في الإمارات فيبدو أنه قد أدمن عمليات التهريب والقرصنة والاحتيال والسطو على مقدرات الشعوب الفقيرة حول العالم واستغلال معاناتهم في تكديس الأموال داخل إماراته والتفنن في إظهار وجه حضاري لدولته لا ينتسب لواقع أفعالها في شيء تماماً كما تفعل أمريكا وبعض الدول الأوروبية غير أن الإمارات يبدو أنها نجحت في تجاوزهم، فبحسب تقرير نشرته الغارديان البريطانية في يونيو/حزيران 2018 فإن دبي تخطت بالفعل جزيرة كوستا ديل كرايم الإسبانية والتي كانت تعرف عالمياً بأنها أسوأ مكان في العالم من حيث غسل الأموال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.