عُرف المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في الأوساط الثقافية في العالم العربي بأفكاره الداعية للتحرر الفكري من الاستعمار في فترة شهدت انعتاق غالبية الدول العربية من الاستعمار الأوروبي. وقد كشفت إسهاماته الفكرية التي نشرها في سلسلة كتب تحت عنوان "مشكلات الحضارة" عن العقلية الفذة والثقافة المنهجية للراحل الذي اضطرته الظروف لدراسة الهندسة رغم رغبته في دراسة القانون بكلية الدراسات الشرقية في فرنسا، حيث أخبره مدير القبول بالكلية حينها بأن القبول للدراسة بالكلية يخضع لاعتبارات سياسية، ما يعني أن تفوقه الأكاديمي لن يغفر له وهو القادم من بيئة دينية ودارس للقرآن في دولة هي الأكثر عداءً للإسلام وسعياً لنشر لغتها وحضارتها وسط مستعمراتها مقارنة بالقوى الاستعمارية الأخرى. أو ربما لاعتبارات غير مرئية مرتبطة بمعلومات متوفرة لدى السلطات الفرنسية حينها بأن الرجل ليس من الطراز الذي خُلق ليُقاد، وإنما ليقود الناس بأفكاره.
عن مؤلفاته التي زادت على العشرين يقول المفكر والسياسي السوري الإسلامي خالص جلبي إن "مالك بن نبي كتب بلسانين العربي والفرنسي ولكن لم يستفد منه لا العرب ولا الفرنسيون، إلا في رصده ضمن دوائر الصراع الفكري، كما أشار إلى ذلك في كتابه "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" عن لعبة المرآة". وهو محق في هذا لجهة أن إسهامات بن نبي الفكرية من أجل النهوض بالأمة تم استخدامها من قبل المؤمنين بالصراع الفكري بين العالم الإسلامي وبين "الآخر" لغايات سياسية أو فكرية من دون الاستفادة من الجانب العلمي والعملي منها المتعلق بتحليل أسباب التخلف وسط شعوب الجنوب عامة والشعوب المسلمة على وجه الخصوص. وهو ما سماه بن نبي "محور طنجة – جاكرتا" الذي يمثل دول الجنوب المتخلفة، في مقابل "محور واشنطن – موسكو" الذي يمثل دول الشمال الصناعية. وهو بهذا يُقصي الجانب الايديولوجي والسياسي "شيوعي- رأسمالي، أو مسلم مسيحي هندوسي بوذي" في تصنيفه المعتمد على أسباب نهضة شعوب الشمال اقتصادياً بسبب الثورة الصناعية التي وُلدت بسبب ثورة حضارية وفكرية سابقة لها.
في كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد" الذي نُشر ضمن سلسلة "مشكلات الحضارة" يتحدث بن نبي بلغة المحلل والمفكر وطبيب التشريح عن أصل العلل المرتبطة بالاقتصاد في جسد العالم المتخلف -الذي تمت تسميته "النامي" من قبيل رفع الروح المعنوية والدبلوماسية- قائلاً إن السبب الجوهري لتخلف الدول الإسلامية (الخط الوهمي الممتد من طنجة غرباً إلى جاكرتا شرقاً، والذي سماه "محور طنجة – جاكرتا) يرتبط بالخلفية الحضارية لهذه المنطقة التي توقفت حركة العلم والبحوث والتطور فيها منذ عصر الموحدين. ويشرح بن نبي تحليله بالقول إن "الاقتصاد في الغرب قد صار منذ قرون خلت ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية، وقانوناً جوهرياً لتنظيمها" منذ بداية الثورة الصناعية وانطلاق استخدام الطاقة البخارية التي جعلت مدن أوروبا مناطق صناعية منتشرة على نطاق القارة، وجعلت إنسان أوروبا وأمريكا الشمالية يبتكر مقولة Time is Money، التي برزت كنتيجة لحقيقة أن الأجور في المصانع كانت مقابل إنتاجية معينة في فترة زمنية معينة من اليوم. الأمر الذي يفتقده مواطن العالم الثالث في القرن الحادي والعشرين الذي ما يزال يذهب إلى عمله ويعود بدون إنتاجية ملموسة. أو يعمل بنظرية "رزق اليوم باليوم" أو "الله كريم" وغيرهما من المقولات التي تكشف عن استمرار عقلية الغيبيات وانعدام ثقافة النظام والتخطيط، واعتماد الدول والمجتمعات المسلمة على الاقتصاد الطبيعي غير المنظم. وينتقد بن نبي هذا الأمر بشدة قائلاً إن "النظرية الوحيدة التي تناولت تأثير الاقتصادية في التاريخ (نظرية ابن خلدون) ظلت حروفاً ميتة في الثقافة الإسلامية حتى نهاية القرن الأخير". وهي مقولة تستحق أن نتوقف عندها كثيراً.
الأمر الآخر الذي يشير إليه مالك بن نبي في حديثه هو "الثقافة الاقتصادية" الكامنة في عقل المواطن الأوروبي وأثرها في تطور الأفراد والمجتمعات في أوروبا، وهي جزء من الثقافة الناتجة عن الضغوط التي تعرضت لها هذه المجتمعات إبان تحولها من مجتمعات زراعية أو رعوية إلى مجتمعات صناعية تسكن أطراف المدن ويحتم عليها الادخار. وهو أمر أشار بن نبي إلى أن رمزيته تتمثل في مصطلح "جورب الصوف" في الثقافة الفرنسية، الذي كان يستخدم لادخار النقود الفائضة عن الحاجة لقرون خلت -قبل انتشار المصارف- ويتوفر في أي بيت فرنسي. كما نمت هذه الثقافة الاقتصادية من الشعور بالأنانية وثقافة الأنا وحب الذات (egoism) وسط الأوروبيين. وتحضرني واقعة طريفة تعود لسنوات الدراسة عندما كنت أبحث عن طاولة في مطعم الجامعة وأنا أحمل صحناً من البطاطا المقلية في وجبة الغداء ووجدت بعض زملاء الدراسة الأوروبيين يجلسون على طاولة فجلست معهم وذهبت بعفوية إلى طاولة الطعام لأجلب عدداً من الشوك والسكاكين ليشاركوني طعامي، فتفاجأت بإحدى الزميلات تقول لي: "أحمد.. أنت شخص طيب! وعندما سألتها عن سبب مقولتها قالت لي ما معناه إنه "في ثقافتنا الأوروبية فإن طعامي لي وحدي".. فأفهمتها أنه -وبحسب فهمها هذا- فإن الجميع طيبون في مجتمعي. وأنه وبحسب ثقافتها فإن الثقافة الشرقية عامرة بالطيبة، أو السذاجة بمفهوم هؤلاء.
ولشرح الفرق بين عقلية هذه الشابة الأوروبية التي لم تدخل مجال العمل بعد، لكن ثقافة الاقتصاد والنزعة الفردية موجودة لديها بفضل تربية وثقافة المجتمع الأوروبي القائمة على "الأنا" والاعتماد على النفس أوجدت فيها مثل هذه المفاهيم وثقافة ترتيب الأولويات، وبين الثقافة الشرقية القائمة على "اللا نظام" والاعتماد على الغير. يشير بن نبي إلى بحث قام به في مدينة جزائرية صغيرة في منتصف ستينيات القرن الماضي كشف عن أن نسبة ميزانية الضروريات إلى الكماليات وسط العائلات التي طبق عليها الدراسة هي 5% إلى 95%. وهو أمر يشير المفكر الجزائري المخضرم -الذي ظلمته بلاده بشدة واستفادت من أفكاره أمم بعيدة مثل ماليزيا وإندونيسيا- إلى أنه قد ينطبق على الدول كما ينطبق على الأفراد. وليس أدل على ذلك أكثر من الدول العربية التي تتجاوز فيها ميزانية الأمن الداخلي أو الدفاع ميزانيات الصحة والتعليم والتنمية الصناعية أو الريفية مجتمعة.
إسهام مالك بن نبي الفكري المتمثل في دعوته للنخب والشعوب المسلمة في "محور طنجة – جاكرتا" للنهوض بنظرية اقتصادية تختلف عن النظريتين السائدتين في عالم الاقتصاد في فترة ما بعد الاستقلال (Post-colonial) لغالبية الشعوب الإسلامية، وهما النظرية الرأسمالية لآدم سميث القائمة على مبدأ ليبرالية السوق والنظرية الاشتراكية القائمة على مبدأ الحاجة. ويجادل بن نبي بأن الحضارة الإسلامية في الشرق تقع في منزلة بين الحضارات العتيقة وبين الحضارة الغربية، حيث "يمثل اقتصادها معبراً من الاقتصاد المألوف إلى الاقتصاد المنظم تنظيماً تايلورياً (نسبة إلى تايلور صاحب النظرية الاقتصادية التي أدخلت فكرة ضبط الإنتاج بترتيب الحركات حسب الوقت والعكس. أو ما يسمى "دراسة العمل والزمن").
كما يشير إلى فشل خطط اقتصادية لمفكرين اقتصاديين أفذاذ من أوروبا حاولوا تطبيقها في دول مسلمة، مثل خطة الألماني د. شاخت لتنظيم اقتصاد ألمانيا هتلر، والتي نجحت بصورة مذهلة في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، بينما فشلت في إندونيسيا رغم الاستعانة بنفس الشخص ونفس الخطة بعدها بسنوات قليلة. ويفسر مالك بن نبي فشل خطة د. شاخت في إندونيسيا رغم ثراء إندونيسيا الطبيعي والبشري مقارنة بألمانيا إلى ما سماه "المعادلة الاجتماعية" المتمثلة في الفرق بين الثقافة والخلفية الحضارية للمواطن الألماني والإندونيسي، حيث تقوم ثقافة الأول على التخطيط والوعي الاقتصادي والمدن الصناعية، بينما تقوم ثقافة الثاني على الاقتصاد البدائي الزراعي أو الرعوي وثقافة الريف الذي لا يتميز بالتنظيم ويعتمد على المبادرات الفردية. الأمر الذي يصعب معه تطبيق خطة تطوير الاقتصاد الكلي. وأكاد أتخيل بن نبي وهو يضحك جزلاً في قبره إذا علم بالنجاحات التي حققتها اندونيسيا وماليزيا في تسعينيات القرن الماضي في النهوض باقتصاديات البلدين، ونخبها تدرس خططه في التحول الطبيعي إلى الصناعة التي ترعاها الدولة.
أيضاً يتطرق بن نبي في كتابه الى مشكلة تصدير المواد الخام (زراعية كانت أو معدنية) وأثرها على الاقتصاد، حيث تُواجَه بعقبة "الكتلة النقدية" التي تمثل الدولار أو الجنيه الإسترليني، وهي عملات تسيطر على قيمتها دول استعمارية هي من يحدد رفع قيمة المادة الخام أو التسبب في انهياره. ويضرب في ذلك أمثلة بنفط إيران والجزائر في الستينيات، أو المطاط في دول جنوب شرق آسيا. ويرى أن الحل في التحول للتصنيع وإنشاء تكتلات اقتصادية إقليمية للاكتفاء الذاتي، حيث يضرب مثالاً على ذلك بتكتل اقتصادي يضم السودان ومصر والسعودية للاستفادة من مياه السد العالي والأراضي الزراعية في تحقيق اكتفاء ذاتي غذائي يكون مقدمة لتحقيق الاستقلال السياسي. ومنبع هذه الأفكار والمبادرات من بن نبي سببه اعتقاده في التخلف الحضاري في المنطقة -والذي نتج عنه تخلف اقتصادي- نتج عنه ما سماه "القابلية للاستعمار". وهي حالة نفسية تنتج عن انعدام الوعي الاقتصادي وروح المبادرة والتفكير، الأمر الذي يجعل الدول والأفراد سهلي الانقياد.
يرى مالك بن نبي أن تجربة الصين الشبيهة بتجربة ألمانيا في تحويل النمط الاقتصادي لمجموعات سكانية كاملة في مختلف أقاليم الدولة الى مجتمعات زراعية أو صناعية تعمل بشكل جماعي لتكوين اقتصاد متكامل لا يعتمد على تصدير المواد الخام لم تكن لتنجح لولا "الثورة الثقافية". كما يمتدح تجربة الإصلاح الزراعي في مصر بعد ثورة يوليو التي قضت على الإقطاعيات الزراعية وأدت بعدها إلى تحول الدولة الى التصنيع. وهو في حديثه عن هاتين التجربتين لا يخجل من الاشادة بالنموذج الاشتراكي (أو الاقتصاد المخطط)، ويقول بكل جرأة إن الاقتصاد هو مجال المختصين وليس مجال الفقهاء ورجال الدين. وينتقد الخطط الاقتصادية لغالبية الدول الإسلامية واصفاً إياها بـ"الصبيانية الاقتصادية"، و"الاقتصادانية" أو "المعاشية". ويذهب بن نبي إلى أن متوسط دخل الفرد في دولة ما ليس بالضرورة دليلاً على تطورها الاقتصادي، ويضرب على ذلك مثالاً بالكويت التي كان متوسط دخل الفرد فيها يفوق مثيله في الولايات المتحدة، رغم الفارق الكبير بين البلدين في التطور الاقتصادي والصناعي واقتصاد الثانية المتكامل الذي يغنيها عن الاعتماد على الخارج في المنتجات الزراعية أو الصناعية أو حتى الكماليات. بينما يمكن خنق اقتصاد الكويت عن طريق التسبب في انهيار أسعار النفط.
من النقاط الجوهرية في أفكار مالك بن نبي عن الاقتصاد قوله إن "الاقتصاد، مهما كانت نوعيته المذهبية، هو تجسيد لحضارة. على شرط أن نحددها بصفتها مجموعة الشروط المعنوية والمادية". ويحدد الشروط المعنوية بما سماه (الإرادة) التي تحرك المجتمع نحو تحديد مهامه الاجتماعية وتنفيذها. والشروط المادية التي سماها (الإمكان) الذي يضع تحت تصرف المجتمع الوسائل الضرورية للقيام بمهامه. وهو في هذا يستعين بكتاب للأكاديمي جون نيف . (J. Nef) بعنوان (الأسس الثقافية للحضارة الصناعية) يتحدث فيه في فصل كامل عن "حركات الفكر" في القرن السادس عشر في أوروبا، بينما يتحدث في فصل آخر عن "دور الإصلاح الديني" في قيام النهضة الصناعية. ويفسر بن نبي ظاهرة استخدام البخار كوسيلة للطاقة استخدمت في السفن والمصانع والقطارات، التي شكلت ثورة تمخض عنها قيام الثورة الصناعية، بأنها جاءت نتيجةً لما سماه التغيير الجذري في "المناخ العقلي الأوروبي". وهو مناخ نتج عن تجربة جاءت ثمرة لحركات الفكر والإصلاح الديني المتمثل في رفع يد الكنيسة عن الدولة كما يقول جون نيف. بالإضافة لعوامل أخرى لا مجال لذكرها أهمها إصلاح النظام التعليمي.
إسهام مالك بن نبي المتمثل في ربطه التقدم الاقتصادي بالثورة الثقافية – الحضارية التي توفر الأساس الضروري لنهضة الأمم يعتبر مقدمة لإسهامات أخرى من النخب الأكاديمية والسياسية في الدول المسلمة. وهو بمثابة من فتح كوة في باب مغلق لقرون حتى تتآكل من الصدأ ويحتاج لإضافات من هذه النخب للنهوض بالمنطقة العربية بعد أن خطت دول مسلمة كإندونيسيا وماليزيا خطوات بعيدة في التطور الصناعي والاقتصادي وتنمية الإنسان. وهي دول استفادت من مؤلفات بن نبي وقامت بترجمتها إلى لغاتها المحلية، لدرجة أن دولة مثل ماليزيا أقامت في مطلع التسعينيات مؤتمراً دولياً لدراسة وعرض إسهامات الراحل الفكرية. ومثلما قيل قديماً في الإنجيل إنه "لا كرامة لنبي في قومه"، أو كما يقول المثل العربي إن "زامر الحي لا يُطرب"، فإن مالك بن نبي لم يجد التقدير اللازم في بلده الجزائر قبل وفاته ربما لأسباب سياسية، الأمر الذي جعله يقول لزوجته وهو على فراش الموت: "سأعود بعد ثلاثين عاماً"، وهو بهذا يعني أن الأجيال القادمة ستدرك قيمة أفكاره التي تنزهت عن الأيديولوجيا السياسية أو الدينية وسعت لوضع أساس لنهضة الأمة بدون متاجرة دينية أو سياسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.