حين أعلنت دولتا الإمارات والبحرين رسمياً تطبيع العلاقات مع إسرائيل في الـ15 من سبتمبر/أيلول الماضي، احتفى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ"فجر شرق أوسط جديدٍ".
واليوم، تستوعب مصر ما تحمله هذه الحقبة الجديدة لها من عواقب. إذ هناك نوعان من الكوارث على مصر من جراء العرض الضمني من الإمارات بأن تصبح الشريك التجاري العربي الأول لإسرائيل: كوارث محتملة، وكوارث فورية.
لنبدأ بالمخاطر بعيدة المدى أولاً. خط أنابيب النفط الصحراوي الذي كان يعمل في الماضي كمشروع مشترك سري بين إسرائيل وإيران في عهد الشاه قد يلعب دوراً كبيراً في توصيل شبكة خطوط الأنابيب العربية بالبحر المتوسط؛ إذ يمتد نظام خطوط الأنابيب التابع لشركة Europe Asia Pipeline، والبالغ طوله 254 كيلومتراً، من البحر الأحمر حتى ميناء عسقلان الإسرائيلي.
وإلى جانب خط الأنابيب، تعقد شركة DP World المملوكة للحكومة الإماراتية شراكةً مع DoverTower الإسرائيلية لتطوير موانئ ومناطق حرة إسرائيلية، وفتح خط شحن مباشر بين ميناء إيلات على البحر الأحمر وميناء جبل علي في دبي.
ولا يبشر خط الأنابيب ولا خط الشحن بخيرٍ لقناة السويس، التي أنفق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي 8 مليارات دولار على توسيعها. ويشمل ذلك المبلغَ الذي أرغم رجال الأعمال المصريين والمساهمين العاديين على وضعه في هذا المشروع المشؤوم. بين عشية وضحاها، ستفقد قناة السيسي قيمتها بعد إيجاد وسيلة أرخص لتوصيل النفط من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط.
وهناك أيضاً مخاطر أخرى تحيط بنظامه، إذ ستفقد القاهرة الدور الذي تمتعت به على مدار عقودٍ في الوساطة بين الدول العربية وإسرائيل عقب اتفاق التطبيع. وبالإضافة إلى ذلك، ستفقد ملكية ما تُسمَّى بالبطاقة الفلسطينية، حيث كانت مصر بمنزلة نقطة إسنادٍ لجميع الفصائل الفلسطينية؛ بتنظيم اتفاقات وقف إطلاق النيران بين إسرائيل وحماس في غزة، أو بلقاءات التصالح بين فتح وحماس في القاهرة. يجب ألا نستهين بحقيقة أن آخر محاولةٍ للمصالحة بين فتح وحماس كانت في إسطنبول، لا القاهرة.
وفي رأي محلِّلين من أمثال محمد عصمت، الكاتب بصحيفة الشروق، فإن هناك أبعاداً أخرى لخسارة المكانة المصرية، إذ قال: "كل منظومة الأمن القومي العربي بأبعادها العسكرية والسياسية والاقتصادية سيتم تفكيكها بالكامل، وكل مقولات العالم العربي عن الحرية والوحدة والتنمية المستقلة سيتم "تكهينها" ووضعها في المخازن"، مضيفاً: "طوال سنوات المواجهة مع إسرائيل، كان لمصر الدور الرئيسي في تحديد ردود الأفعال العربية رغم خلافاتها مع هذه الدولة العربية أو تلك، لكن هذا الوضع لن يستمر؛ حيث تطمح إسرائيل في أن تحل محل مصر وتقود المنطقة العربية طبقاً لمعادلات جديدة، ستسقط بمقتضاها كل مؤسسات العمل العربي المشترك وعلى رأسها الجامعة العربية نفسها".
تغيُّر اللعبة
إلى جانب المكانة، ستخسر مصر أموالاً طائلة، فقد توقفت كل من المملكة السعودية والإمارات عن تمويل نظام السيسي العسكري الديكتاتوري، الذي سبق أن صبَّت الدولتان مليارات الدولارات عليه. وقد أوقفت السعودية تمويلاتها من المال والنفط إلى مصر بسبب أزمة ميزان المدفوعات التي تعانيها، فيما وجد ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد فرصاً مغريةً أخرى. فلا بد أن صبَّ النقود في جيوب السيسي التي لا نهاية لها يبدو كأنه في خبر كان.
وتُعد شركة مبادلة الإماراتية للاستثمار في أبوظبي محل اهتمامٍ خاص من إسرائيل، إذ تبلغ قيمتها 230 مليار دولار من الثروة السيادية الإماراتية. وقد وصف هذا الصندوقَ أكاديمي إسرائيلي عاش بعض الوقت في أبوظبي بأنه "سيغيِّر اللعبة" بالنسبة إلى شركات التكنولوجية المتقدمة الإسرائيلية.
لكن احتمال تحوُّل الاستثمار الإماراتي من مصر إلى إسرائيل يغيِّر بالفعل اللعبة بالنسبة إلى بعض رجال الأعمال في القاهرة. إذ أُلقي القبض على صلاح دياب، مؤسس صحيفة المصري اليوم، على ذمة اتهامه بارتكاب مخالفات بناءٍ في شركاتٍ مملوكةٍ له. لكن القبض عليه مختلف هذه المرة، إذ إن دياب مسجونٌ بانتظار التحقيق معه، وكل الدلائل تشير إلى أن النيابة تحت أوامر بالتحفظ عليه.
ولم يخفَ على أبوظبي أن دياب هو خال يوسف العتيبة، السفير الإماراتي الذي لعب دوراً محورياً في الإعلان المسبق لاتفاق التطبيع.
وعندما قُبض على دياب آخر مرةٍ في عام 2015، تدخل العتيبة وسرعان ما أُطلق سراح خاله. لكن السيسي يأبى الاستماع هذه المرة. ومما يثبت أن مشاكل دياب القانونية أكثر جديةً هذه المرة نشر نصٍّ لتسجيل حوارٍ دار على العشاء بين دياب والمرشح الرئاسي السابق أحمد شفيق على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يحمل اسم واحدٍ آخر من كبار القادة العسكريين، سامي عنان. يُذكر أن سامي عنان قد أُطلق سراحه ووُضع تحت إقامة جبرية في ديسمبر/كانون الأول الماضي بعد قضاء سنتين من مدة سجنه البالغة 9 سنوات.
وسبق أن نشب صراعٌ بين السيسي من جهة، وشفيق وعنان من جهة أخرى، إذ أُجبر الأول على الانسحاب من الترشح لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2018، بينما ينفذ الأخير حكماً بالسجن مدة عامين.
مشاكل قانونية
في التسجيل، يُبدي شفيق ازدراءً للسيسي، الذي يصفه بأنه "ضابط جيش ساذج <<بتاع مشاة>>… لم يتعلم قط أن يتعامل <<صح على نظافة>>".
ويرد دياب ضاحكاً: "أنت أيضاً ضابط جيش يا سيادة الفريق… لا بد أنك تفهمه". فيُتبع شفيق بقوله: "هناك فرق… طبعاً وأنت تعرف يا <<صلاح بيه>>… ليس كل من في الجيش <<حتة واحدة>>".
والآن، أُلقي القبض على دياب، بينما تقررت إعادة محاكمة شفيق في قضية "فساد الطيران"، على النقيض من الاتفاق المُبرم بين مصر والإمارات، حيث هرب شفيق بعد تولي الرئيس السابق محمد مرسي مقاليد السلطة في 2012. ومن وجهة نظر السياسيين المصريين المنفيين المراقبين للوضع في وطنهم عن كثبٍ، لا شك في هوية الدولة الخليجية التي تستهدفها المشاكل القانونية التي تواجه كلاً من دياب وشفيق.
على سبيل المثال، صرَّح أيمن نور، زعيم حزب غد الثورة والمرشح الرئاسي السابق، بأن القبض على دياب "يعكس حالة الخلاف بين مصر والإمارات بعد تطبيع العلاقات [مع إسرائيل]".
وقد نمى إلى علم موقع Middle East Eye أن السلطات المصرية قد احتجزت رجل أعمال إماراتياً آخر يحاول تأسيس شركة إعلامية في القاهرة، ولم تفرج عنه إلا بعد تدخل طحنون بن زايد، شقيق محمد بن زايد.
إجبار الفقراء على دفع الثمن
كان لخسارة مليارات الخليج عميق الأثر في السيسي، الذي سبق بالفعل أن لجأ إلى صندوق النقد الدولي، وفرض إجراءات تقشف، وأفرغ جيوب أغنى رجال أعماله. لم يبقَ له الآن من خيارٍ سوى فرض ضرائب على مواطنيه. وتماشياً مع شخصيته، فهو يجبر أفقر المواطنين المصريين على دفع الثمن أولاً. وقد تضاعف حجم الدين القومي المصري ما يقرب من 3 أضعافٍ منذ 2014، إذ وصل من 112 مليار دولار إلى 321 مليار دولار.
وفي محافظة أسيوط، يعيش 67 بالمئة من السكان تحت خط الفقر الذي يساوي 736 جنيهاً (47 دولاراً). وكما أوضح الخبير الاقتصادي ممدوح الوالي، فإن ذلك الرقم غير واقعي بالنظر إلى الارتفاع الباهظ لتكاليف المعيشة، ولا شك في أن معدلات الفقر الحقيقية أعلى بكثير. وقد صدرت هذه الإحصائية في السنة المالية 2017-2018، حين بلغ معدل الفقر في محافظة سوهاج 60 بالمئة، فيما بلغ 55 بالمئة في كل من الأقصر والمنيا. وأفاد الوالي أن المسؤولين قد أقروا بتعديل الأرقام مرتين، في ظل تخوفات حكومية من الكشف عن الحجم الحقيقي للفقر.
ورغم المتاعب التي تواجهها هذه المحافظات، فقد واصل السيسي طغيانه، رافعاً أسعار الكهرباء ومياه الشرب والغاز الطبيعي والمواصلات العامة.
ومن الحيل المثمرة الأخرى التي لجأ إليها: هدم البيوت المخالفة لقوانين البناء، وفي بعض الحالات، تكون هذه البيوت منازل عائلية أُنشئت منذ عقود. ويمكن للملَّاك تجنب الهدم في حال تسديد غرامة للحكومة بقيمة 50 جنيهاً مصرياً عن كل متر مربع للمنازل السكنية في المناطق الريفية. أما في مناطق أخرى، فتبلغ غرامة المباني التجارية 180 جنيهاً مصرياً عن كل متر مربع.
ومن عواقب ذلك الكساد أن أدَّى إلى توقف عمليات البناء، وإجبار كثيرٍ من العمالة اليومية على البقاء في بيوتهم عاطلين. بينما قلت كذلك إمكانية تحمل تكاليف المواصلات العامة. على سبيل المثال، شهد ركاب القطارات -أعلى وسائل النقل استخداماً بين الوجهين القبلي والبحري- رفع أسعار نقل البضائع إلى ما يتراوح بين 12 و140 جنيهاً مصرياً عن كل صندوق، على حسب الوزن والمسافة التي يقطعها بالقطار.
موجات احتجاجية
بناءً على كل ذلك، فلا عجب في أن هذه القرى قد شهدت تظاهراتٍ ضد الحكومة غير مسبوقةٍ، ولكنها سلمية حتى الآن. ببساطة، لم يعد الناس يحتملون مزيداً من هذا.
وحين حثَّ المقاول المنفي محمد علي خصوم السيسي في البلاد على المشاركة في "يوم غضب" للمطالبة برحيل الرئيس، تفاجأ هو نفسه مما حدث: 6 أيام من التظاهرات فيما يزيد عن 40 قرية، رغم الإجراءات الأمنية المشددة.
كانت رسالة علي بسيطة: الرئيس الذي يتباهى بأعداد القصور الرئاسية التي بناها لنفسه (بمساعدة علي) لن يسمح حتى للفقراء بالعيش في بيوتهم دون التهديد بهدمها.
وحتى الآن، يُوجد اختلاف كبير بين التظاهرات الحالية في مصر، وثورة 2011، إذ لا قائد لها ولا شعارات سياسية. وهي محافظة ودينية، لكن ليست من تنظيم الإخوان المسلمين. وكذلك جاءت ثورة 2011 الباسلة من المدن، وكان معظم المشاركين بها -لكن ليس كلهم- من الطبقة المتوسطة العليا. وكان كثير منهم حاصلين على شهادات جامعية.
أما تظاهرات اليوم فتأتي من بين صفوف الفقراء وغير المتعلمين، وكثير منهم أصغر سناً من المتظاهرين في 2011. وكما كتب عبد الرحمن يوسف، الابن الليبرالي العلماني للشيخ يوسف القرضاوي، العالم الإسلامي التابع لجماعة الإخوان المسلمين في قطر: "النظام يواجه مواطناً غاضباً، لا يرى فيه نظاماً شرعياً أصلاً. وهذه مواجهة مباشرة، ولا يكاد يوجد من يتفاوض باسم هؤلاء البسطاء الذين يدافعون عن أنفسهم ضد قطيع من الضباع المسعورة".
"سأموت على أية حال"
من ضمن الحوارات الكثيرة التي أُجريت مع أهل القرى، كان هناك واحد مؤثر على وجه الخصوص. حيث قالت نفيسة عطية محمد، القاطنة ببنايةٍ مهددةٍ بالهدم: "كما ترى، يمكنك رؤية عروق السقف المكشوفة. لا أجد أحداً في المنطقة يأتيني بمشمَّع. أبيع الخردة بجنيه، وأبيع الخمسة بعشرة جنيهات حتى دخت في الشمس".
وعند سؤالها عن الغرامة التي طلبتها منها السلطات، أجابت: "قالوا 1000 جنيه، ثم 4000 مقسمة على عامين إلى 4 أعوام. أنَّى لي بهذا؟" وليس لها أحدٌ قادرٌ على إقراضها ما يكفي من المال لتستطيع البقاء في منزلها، كما أوضح التقرير.
وتابعت نفيسة: "درت على البيوت أمس أبحث عمَّن يقرضني… أتقاضى معاشاً لكن والله ما يكفي. المياه بـ150 جنيهاً والكهرباء
بـ550 في الشهر. الإيصالات بالداخل، يمكنك رؤيتها. دعهم يأتوا ويأخذوا بيتي. سأموت على أية حال. سأتركه لهم". وينتهي الحوار بانخراط الصحافي في الدموع.
ولن يقدر السيسي على تحمل توابع استمرار هذه الاحتجاجات. هناك سقفٌ لما يمكن أن تتحمله مصر من سوء إدارة وفساد، وسوف تبلغ هذه المرحلة قريباً حين يتوجَّه الغضب الجماهيري نحو النظام نفسه. كثير من أهالي هذه القرى يملكون سلاحاً، وفق التقاليد، وسيتبعون مبدأ الثأر إذا أطلقت عليهم قوات الشرطة أو الجيش النار. حتى الآن، التظاهرات سلمية.
العائلات الملكية الإماراتية والسعودية هي من وضعت هذا النظام العسكري القاسي الغاشم على رأس السلطة. فما كان السيسي لينشق عن الصفوف ويخون رئيسه مرسي، الذي نصَّبه وزيراً للدفاع، لولا الأموال التي وعدته بها الرياض وأبوظبي.
وفي حال فقدانهم للسيسي ولمصر ككلٍّ، فسرعان ما ستتهدم خططهم للهيمنة الإقليمية. وحينها، ستكون المنطقة قد وصلت إلى نقطة تحول بحق، لكن ليست النقطة التي كان يخطط لها لا محمد بن زايد ولا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.