لا شك أن السينما لا تقتصر على الترفيه وحده، وإنما أصبحت أداة ناعمة تصقل الفكر وتنثر البذور في تربته، وبهذا تفتح المدارك على توجهات الدول وسياسات الأنظمة، وتنشط السينما باعتبارها موجهة للرأي العام عند الأنظمة الاستبدادية، والحديث إذاً يقودنا إلى عالمنا العربي كونه بؤرة الاستبداد.
منذ الخمسينات استُخدم الراديو كأداة حرب بين الأنظمة العربية في التشهير بالشخصيات وإبراز كل هفوة على أنها فضيحة، ثم دخل التلفزيون إلى العالم العربي عن طريق مصر في عهد جمال عبدالناصر، الذي قام بدوره باستغلاله لتسويق كاريزما الرئيس؛ فراح يُكثر من خطاباته التي أسرت قلوب الشعب المصري ومن ورائه الشعوب العربية، وهنا يجب القول إن ناصر وجه الشاشة نحو العدو الطبيعي للأمة العربية، ولهذا فإن الشعوب العربية أجمعت على قبول خطابه الذي كان يتماشى مع المزاج العام السائد تجاه القضية الفلسطينية تحديداً.
ثم جاءت حقبة أنور السادات، الذي استخدم اللقطة نحو تسويق سياساته وترويج مبادرته لحل صراع الشرق الأوسط وتحقيق السلام مع إسرائيل، وكان السادات رائد تسويق التطبيع مع إسرائيل من خلال اللقطة التلفزيونية التي أحبها منذ صغره، لكن الخطوة التي راهن عليها فشلت؛ والسبب أن السادات الذي حاول كسر حاجز "المقدسات: المحرمات" اصطدم بالواقع الرافض لمنطق مصافحة العدو، إلا أن مناوراته الإعلامية أسهمت بإحداث شرخ في هذا الجدار، الذي تسربت منه الفكرة إلى المجتمع المصري مترافقة مع سينما حاولت إظهار وحشية العهد الناصري وضنك العيش الذي سببته سياسة ناصر المعادية لإسرائيل، كما أن الشاشة راحت تركز على شخصية "الرئيس المؤمن" وتتبع خطواته إلى المسجد كل جمعة وخطاباته بنبرته الجهورية، هنا ظن السادات أنه نجح في جلب الشعب المصري إلى صفه، وبالتالي عاش السادات وَهْمَ تسويق الذات، ظناً منه أن التطبيع يمر من خلال تطويع الشعب فكرياً، وقد يكون ظنه جزءاً من الحقيقة، إلا أن السواد الأعظم من الشعب رفض مبادرة السادات وزيارته الشهيرة إلى القدس وإن فُرِضَ عليه السكوت عن اتفاقية كامب ديفيد بواسطة عصا الفرعون، غير أن رهانه باء بالفشل، بل إن كثيرين أرجعوا اغتياله إلى رهانه على تحقيق السلام مع إسرائيل.
قد تظهر الشاشة كما رأينا كعنصر أساسي، وقد تكون العنصر الأهم في محاولة السادات كسر الجمود القائم مع فكرة قبول إسرائيل كأمر واقع، ولكن وللإنصاف فإن السادات كان يبحث عن سلام يحقق فيه ذاته، ويأمل فيه إشباع الأنا المتضخمة لديه، وهذا خلاف ما ظهرت عليه مؤخراً أنظمة عربية وتحديداً خليجية ركبت موجة التطبيع، محاولة كسر فكرة الوقوف الأبدي مع الشعب الفلسطيني، فقد وظفت المسلسلات للتسويق ليس لوجود إسرائيل فقط وإنما إلى قبولها كحليف وصديق، وعلى جانب آخر ذهبت هذه الأعمال إلى تحميل الفلسطينيين مشاكل العرب، والتنكر للفلسطينيين وإظهارهم كعالة على الشعوب العربية الأخرى، غير أن الواقع يعاكس تيار هواء الصحراء الخليجية الذي ينقل حرارة الحماس للتطبيع؛ فالشعوب في الخليج كغيرها رافضة لإسرائيل وثابتة في موقفها تجاه القضية الفلسطينية وشعبها.
يبدو جلياً التدرج في عملية تشكيل الوعي العربي؛ فمنذ سنوات قليلة مضت بدأت بعض المسلسلات العربية مثل "حارة اليهود" و"باب الحارة" بالترويج لفكرة التعايش مع اليهود كأحد شعوب المنطقة، باعتبارها تمثل جزءاً من التاريخ العربي، وقد يبدو هنا أن اتهام التطبيع فيه شيء من الإجحاف بحق القائمين على تلك المسلسلات، وذلك من واقعية الطرح وصحة الحقائق من وجود يهودي في المنطقة، حتى وإن ظهر اليهودي أكثر إنسانية من العربي المسلم، والمرأة اليهودية أكثر حشمة، بل وتقوى من المرأة العربية المسلمة، ولكن ما جاء به رمضان الحالي قطع الشك بسيف غليظ، لا يدع مجالاً إلا للقول بأن ما تم دسه في الأعمال السابقة إنما هو مقدمة للأعمال التي ظهرت في رمضان الحالي، أمثال "أم هارون" أو "مخرج7" التي تناولت اسم إسرائيل صراحة، وتبرأت من القضية صراحة أيضاً.
إن هذه الأعمال الفنية تحاول نقل جدلية حقيقة الشعور العربي تجاه فلسطين ومناقشة عدالة القضية الفلسطينية، كما أنها تروج لخطاب دخيل على الثقافة العربية والعقيدة الإسلامية، بطرح الصلح مع عدو يداه مخضبتان بدم أبناء الشعب العربي الفلسطيني، وهذا بدوره يفتح المجال أمام مرحلة جديدة من التعاون مع إسرائيل، يتعدى اتفاقيات على ورق تؤكد على سلامة موقفها تجاه الاحتلال وقبوله، وإنما يؤسس لتعاون في الجانب الاقتصادي والثقافي، يبشر باختراق أمني للكيان العربي، وخطر يهدد الهوية العربية الإسلامية وحتى المسيحية التي تقف ذات الموقف من الاحتلال وموجة التطبيع، ومما يؤكد على بوصلة هذه الأعمال نحو تل أبيب تزامن حملة شرسة من كتاب خليجيين يتهجمون بضراوة على الشعب الفلسطيني ويتبرأون علانية من قضية العرب والمسلمين الأولى، في مقابل هذه الصورة السوداوية التي تظهر بشكل فاضح، نجد أن الدراما العربية ما زالت تقاوم؛ فقد ظهرت هذا العام أعمال تروج لعدالة القضية الفلسطينية مثل "حارس القدس".
إن الأعمال المتمسكة والمرتبطة بفلسطين، والرفض الشعبي العربي لموجة التطبيع وما يرافقها من أعمال فنية وتصريحات لكتاب مقربين من السلطة، لهي رسالة للمطبعين ومن يوجههم، بأن أموالكم لن تكسر جدار الحقيقة الشامخ، ولن تُغير الوعي العربي الذي تشرَّب حقيقة الصراع الوجودي مع هذا الاحتلال، وليس أبلغ من موقف طفل ترسَّخ في اللاوعي عنده أن فلسطين قضيته، ولا أصدق من أم شهيد أو أسير نذرت ابنها لهذه الأرض المقدسة؛ أرض فلسطين، حفاظاً على تاريخها وقدسيتها وقدسها ومكانتها الدينية، والتمسك بها والدفاع عنها وتوارث مكانتها جيلاً بعد جيل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.