مر ما يقرب من 30 سنة على الانقلاب غير الدموي، والذي أوصل الرئيس السوداني الحالي عمر البشير إلى السلطة. لكن وعلى الرغم من أن صعوده إلى السلطة كان سلمياً، لا يصح هذا القول في وصف عهده، وتشهد على ذلك الاحتجاجات الحالية التي اجتاحت الوطن.
مر 11 يوماً منذ بداية الاحتجاجات في مدينة عطبرة شمال السودان، وقد أفادت منظمة العفو الدولية بوصول عدد القتلى خلال الأيام الخمسة الأولى إلى 37 قتيلاً. في الوقت الحالي لا توجد مؤشرات على انحسار الغضب وأعمال الشغب، إلا أن السياق التاريخي يكتسب أهمية بالغة لفهم صعوبة تحقيق رغبات المتظاهرين، ليس فقط في إزاحة البشير من السلطة، ولكن في تغيير مصير السودان أيضاً.
تاريخ السودان المعقد -قبلياً ودينياً واجتماعياً- يجعله مختلفاً عن العديد من نظرائه في الدول العربية وشمال إفريقيا. وتعتبر قصة مصير عائلتي وشتاتها في المهجر، انعكاساً لهذه الديناميكيات، لكن قصتنا ليست فريدة من نوعها، ويمكن إلى حد كبير إرجاعها إلى اسم يعرفه الكثير من السودانيين، هو حسن الترابي.
وعلى الرغم من أن البشير هو من قاد الانقلاب العسكري الذي أوصله إلى السلطة عام 1989، لكن الأب الروحي الحقيقي للنظام الحالي هو الترابي، زعيم الجبهة الإسلامية القومية وقتها. كان لدى الترابي قائد الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في السودان، مهمة أيديولوجية هي تعريب السودان وأسلمته بأي ثمن. وكانت تلك المقاربة المُسيّسة وغير السودانية للإسلام، وانعدام الأمان الذي تبشر به، هو ما دفع بوالديّ وأنا معهم إلى مغادرة الوطن بعدها بعامين.
كان والداي من سكان المدينة: فردين من الطبقة المتعلمة والمهنية، فقد كان والدي محاضراً في الهندسة يحمل شهادة دكتوراه من كلية لندن الإمبراطورية، وكانت والدتي مهندسة معمارية ناجحة تعمل في المدينة، وكلاهما من خريجي جامعة الخرطوم. وكانا جزءاً من قطاعٍ نشط من المجتمع ينبض بالحياة، نتج عن نظام كان فاعلاً لفترة قصيرة من الزمن. كان هذا القطاع تحديداً هو الذي استهدفته الجبهة القومية الإسلامية وفككته على الفور بمجرد وصولها إلى السلطة، لإدراكها التهديد الذي يُمثله. فقد لعبت الطبقات الوسطى –من الأطباء والمحامين والمحاسبين والمهندسين- دوراً بالغ الأهمية في إسقاط القائد العسكري السابق للسودان المشير جعفر النميري. ولم يكن الترابي أو البشير ليسمحا بحدوث ذلك مرة أخرى.
رُفد رؤساء النقابات وموظفو الخدمة العامة والأكاديميون -وأي شخص رفض التجاوب مع نهج الجبهة الإسلامية القومية- من أعمالهم أو تعرضوا للتهديد أو الاختفاء. وتعرضت طبقة المفكرين للتجريف، تاركة خلفها قطاعاً حكومياً ضعيفاً وخدمات تعليمية وصحية منهكة.
نتج عن هجرة المفكرين جاليات من المغتربين أنتمي أنا إليهم؛ شباب ترعرع خارج السودان لآباء وأمهات نشأوا في بلد لا يشبه في شيء ذلك الذي نراه اليوم. وستجد الكثير منا على وسائل التواصل الاجتماعي مثل إنستغرام وتويتر، ندعم الأصوات المتحدثة من أرض الواقع بقدر ما يمكننا، معتمدين على المعلومات التي تنقلها مجموعات عائلاتنا على الواتساب، ونستخدم الوسوم بلغتنا الأم. بالنسبة للكثيرين منا –أو أنا على الأقل- فهذا الأمر شخصيّ؛ لقد أهدر النظام الحالي ثروة السودان وإمكاناته. وهو مسؤول عن وفاة عدد غير معروف من مواطنيه، وفي النهاية دمر البلد الذي كان يمكن أن نترعرع فيه آمنين ونتخذه وطناً لنا.
لكن هذا المقال لا يتعلق بالشتات، بل بالبلد الذي لا يزال الكثيرون منا يسمونه وطناً، بغض النظر عن وهن الاتصال المادي به. وعلى الرغم من أن أسعار الخبز هي ما أشعلت موجة الاحتجاجات الحالية، إلا أن الإحباط الكامن الذي غذى غضب الناس أعمق وأقدم من ذلك بكثير. بالنسبة للكثيرين في السودان، تفرض الأحوال المعيشة الحالية وضعاً لا يُطاق، فقد استشرت أزمات نقص المال والوقود، ووصل التضخم حداً غير متصور، وانهارت الخدمات الأساسية وصارت تضر في بعض الأحيان أكثر مما تنفع. الناس لا يهتفون "نعيش أحراراً أو نموت رجالاً" ويعنونها فعلاً، ما لم يكونوا يائسين حقاً.
لكن تنحي البشير من منصبه لن يكون نهاية أزمة السودانيين. فعائدات النفط التي لم تذهب إلى قطاع التنمية الاجتماعية ذهبت إلى قطاعات الأمن القومي والقوات المسلحة والتسليح. ونظام البشير -المُنشق عن الترابي في مطلع القرن الحادي والعشرين- لم تعد له تلك الأجندة الإسلامية، ويبدو مهتماً كثيراً بالتفرد بزمام السلطة، ويملك التسليح اللازم الذي مكنه من ذلك لما يقرب من ثلاثة عقود.
السؤال إذن له شقان.
هل الإطاحة بالبشير ممكنة؟ ربما. قد لا تكون البنى الاجتماعية التي شكلت عماد الانتفاضات الشعبية السابقة الناجحة، مثل النقابات وفئات المهنيين، نشطة كما كانت في الثمانينيات، إلا أن الحركة الشعبية لا تزال قوية، خاصة عندما ينتاب الكثيرين شعور بعدم وجود حلٍ آخر يلجأون إليه. ومن خلال الدعم الذي يقدمه المغتربون بمشاركتهم، وحرية الاتصال عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فاستقالة البشير مُحتملة بالتأكيد.
إلا أن السؤال الثاني الأكثر أهمية، وهو بدوره تصعب الإجابة عليه أكثر من سابقه. كيف يهدم السودانيون البنية التحتية الحالية للدولة البوليسية، وما الذي يتطلبه الأمر لإعادة بناء هذا الوطن ليكون قادراً على الاستفادة من إمكاناته الحقيقية؟
للأسف ستستغرق الإجابة عن هذين السؤالين أكثر من مقالٍ واحد. لكن ما لم يلق الوضع تفكيراً متمعناً وعميقاً من مختلف المجموعات القبلية والاجتماعية والدينية في السودان، ستعود البلاد إلى نفس الحلقة المفرغة التي ظلت عالقة فيها منذ الاستقلال. لنأمل أن نتعلم من أخطائنا.
هذه التدوينة مترجمة عن موقع صحيفة Independent البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.