يتناقل أهالي محافظة السويس، إحدى محافظات مصر، خبر قيام شاب يقود دراجة بخارية بملاحقة الفتيات في الأماكن التي تخلو من الشرطة وتقلّ فيها حركة المارة، ويطعنهن بآلة حادة ثم يلوذ بالفرار.
"سفاح السويس" هكذا أطلقوا عليه، وسط لغط اعتدنا عليه نحن أبناء المحافظة، المهملة من الدولة خدمياً والمنسية من بين محافظات مصر، ورغم اعتيادنا لم يتعلم أحد التفرقة بين الإشاعة والحقيقة، فبعد انتشار الخبر أخذ كل فرد يضيف توابله ورؤيته الخاصة ومزجهم بالحقيقة، فوصل الأمر إلى القول إن السَّفاح قتل فتاة في أحد الأحياء الشعبية، ورغم استحالة ذلك؛ نظراً لطبيعة المساكن الشعبية وقربها من بعضها البعض وعدم تمكّن أي شخص من الفرار بسهولة قبل إمساك الأهالي به، إلا أن الجميع صدق هذا وراح يردده! وهناك من ادعى أن السَّفاح أصبح يرمي الفتيات بحمض الكبريتيك والمعروف بين العامة بماء النار.
فقامت إحدى فتيات المحافظة بالاستغاثة بالممثلة "أيتن عامر" عن طريق تطبيق إنستغرام؛ لتقوم الفنانة بنشر الاستغاثة والسؤال عن مدى صحتها، فعلَّق البعض مؤكدين الخبر وحالة الفزع والرعب بين الفتيات، فقامت الشرطة بالتحري، وظهر أن بداية الأحداث كانت من خلال نشر فتاتين (على جروبات بالفيس بوك) قيام مجهول بإصابتهما، وتفاجأ الجميع أنه لا يوجد بلاغ واحد ضد أي شخص بتهمة التعرض والطعن، مما جعل الشرطة تطالب الفتاتين بعمل محضر رسمي، وأُحيل إلى النيابة.. وأمرت النيابة بالتحري حول الواقعة، كما تلقَّت بعد هذا حالتين؛ الأولى من سيدة أبلغت بأن شاباً مجهولاً دفعها على الأرض بالشارع. وأخرى طالبة ثانوية عامة أبلغت بقيام شاب بضربها بسلاح أبيض، والأربع هن فقط الحالات الحقيقية، وقامت النيابة بالتحري وأمرت بإقامة كمائن ثابتة وأخرى متحركة لملاحقة الجاني.
وتم القبض على أحدهم، لكن بعد عدة أيام أبلغت سيدة أخرى عن قيام مجهول بطعنها، مما يعني أن هناك شخصاً آخر أو عدة أشخاص يفعلون نفس الأمر، وما زال البحث جارياً.
ربما لو جردنا الموضوع من اللغط والإشاعات سيظهر لنا أن الحادث، رغم إجرامه، يضعنا أمام حقيقة مؤكدة هي أن إهمال الدولة المصرية للمحافظة ومحافظات أخرى جعلها مرتعاً للفقر والجهل، وما يترتب عليهما من جرائم وتنحية للعقل، فحتماً وراء هذا الشاب، إن كان واحداً أو أكثر، قصة بطلها الجهل وكراهية ما تمثلت في كره الفتيات، فراح يسكب جامَّ غضبه وسخطه عليهن، وجعل باقي الأهالي يرددون الإشاعات دون أدنى تفكير في إمكانية حدوث هذا من عدمه، وأذكر خلال فترة دراستي الثانوية انتشرت أقاويل مصحوبة بحالة من الذعر عقب اختفاء ثلاث فتيات، وقيل إن سائق تاكسي قام باختطافهن وقتلهن، وبعدها خرجت علينا عشرات القصص المرعبة عن قتل سائقي التاكسي للفتيات في المحافظة، ووجود جثث هنا وهناك!
وبعد فترة اتضح أن الفتيات الثلاث مجرد مراهقات هربن إلى القاهرة للتنزه، وبعد نفاد نقودهن عُدن إلى بيوت أهلهن وأن كل القصص مجرد إشاعات!
والسويس كمحافظة، رغم تاريخها البطولي وبسالة شعبها في التصدي للاحتلال الصهيوني إبان حرب 1973م، محافظة صغيرة لكنها تمثل الكثير من فئات الشعب المصري المهمَّش والمتروك عُرضة للجهل والفقر رغم قربها من العاصمة، وأنها ليست محافظة ريفية بل محافظة صناعية.
وتحتل منطقة العين السخنة شهرة كبيرة كمنطقة يأتيها المصطافون من كل حدب وصوب، لكن صدِّق أو لا تصدق لو كنت من أبناء المحافظة لا يحق لك التعيين في أي وظيفة والأولوية للوافدين من المحافظات الأخرى!
ولا توجد جامعة ذات كليات مختلفة، بل حتى وقت قريب كان هناك ثلاث كليات فقط وحتى اليوم ما زال عدد الكليات يعد على أصابع اليد وعلى أبناء المحافظة السفر إلى العاصمة أو الإسماعيلية للالتحاق بالكليات الأخرى وتحمّل تكلفة الإقامة والمعيشة وكان بعض الأهالي بل الأكثرية يرفضون سفر بناتهم، وأجبر الكثيرون على الالتحاق بكلية التربية.
ولكم أن تتخيلوا تبعات أن تكون مهنة المعلم متاحة للجميع، إما لأنها تدر ربحاً سريعاً أكثر من كلية تجارة، ومناسبة كمجموع من كلية هندسة بترول، وهما البدائل فقط أو تواجه معاناة، عشتها أنا شخصياً، في السفر والتنقل، وعليك فقط التوجه إلى موقف الأتوبيسات في نهاية شارع الصحافة "الترجمان" وسترى تكدساً أمام شباك قطع تذاكر واحد فقط. ولا داعي لأن تسأل: أين شباك حجز التذاكر الخاصة بالسويس؟
رغم أنها تبعد عن القاهرة ما لا يزيد عن ساعتين بينما باقي المحافظات لن تجد أي صعوبة في قطع تذكرة والتوجه إلى الأسفل والجلوس حتى موعد قيام السيارة، ونحن نقف عدة ساعات تتجاوز أحياناً الخمس ساعات بلا سبب، وأسوأ السيارات من نصيبنا وأحياناً بعد كل هذا يقولون لك ليس هناك أتوبيسات إلى السويس، فتتوجه إلى ميدان رمسيس تنتظر سيارة أجرة "ميكروباص" وأنت وحظك ومهاراتك في القفز وقوتك العضلية في الدفع!
وهناك عشرات من قصص الإهمال التي يعاني منها أبناء المحافظة لأسباب غير واضحة، ولا تظهر إلى العلن إلا عندما تتجسد المأساة في شاب، أو شباب، ساخط يثير الذعر بين الأهالي ويزيح اللثام عما آلت إليه درجة وعي المواطن، فيُنذر أن هناك خطباً ما خلف الإهمال والتهميش فهل ستنتبه الدولة المصرية إلى جرس الإنذار؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.