قدَّر اللهُ لي أن أكونَ ضمن وفدٍ لزيارةِ أهالي شهداء مسيرة العودة في محافظة رفح، وهذا نهج قديم تسير عليه التنظيمات والمؤسسات الفلسطينية من باب الوفاء والتقدير لدور الشهداء في التضحية والفداء.
كان نصيب رفح من الشهداء ما يقارب عشرين شهيداً، أغلبهم دون سن العشرين ربيعاً، وهذا يعني أنهم في عُرف القانون الرباني والقانون الوضعي "أطفال"، وأن القلم لم يجرِ عليهم بعد؛ لأنهم لم يبلغوا الحلم.
لكن جنود الاحتلال كان لهم رأي آخر، فهم لا يريدون لهؤلاء الأطفال أن يكبروا ويصبحوا قادة أبطالاً فوجهوا بنادقهم تجاههم، وأطلقوا منها رصاصات الغدر؛ لينتقلوا من عالم الظلم إلى عالم العدالة، ويكونوا شهداء على التخاذل العربي والدولي تجاههم.
إن العبرة من زيارة بيوت أهالي الشهداء تأتي تحقيقاً لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ) رواه مسلم.
ذهبنا لبيوت أهالي الشهداء؛ لنرفع من عزيمتهم وهمّتهم ونواسيهم في مصابهم الجلل، فإذا بنا نجد أناساً يحتسبون أمرهم لله، رضوا بما قسم الله لهم من فقدان الأحبة، فرِحين بما آتاهم الله من فضله بأن اختار منهم شهداء؛ ليشفعوا لهم في الآخرة يوم الموقف العظيم، فأخذنا منهم جرعات من شحذ الهمم وتقوية العزم.
دخلنا بيوتاً فوجدنا فيها جريحاً وشهيداً، وبيوتاً قدمت أكثر من شهيد، وبيوتاً قدمت أكثر من جريح، وعرفنا كم شعبنا عظيم لا يبالي بالجراحات ولا بفقدان الأحبة فهم على قناعة بأن هذه "فاتورة الدفاع عن الدين والوطن".
سمعنا عن مناقب الشهداء ومميزاتهم الدينية والوطنية من ذويهم؛ حيث حدثنا والد الشهيد الطفل "هيثم الجمل"، 14 عاماً، الذي أطلق الجنود النار عليه وهو لم يغادر بعد ساحة الصلاة في ميدان العودة، أنه كان طفلاً مميزاً من بين أولاده ملازماً للمسجد ويساعد الجميع، ويذهب كل يوم جمعة للمشاركة في مسيرة العودة.
الشهيد "ناجي غنيم"، 23 عاماً، أحد أعضاء "وحدة الكوشوك" في محافظة رفح، حدثنا شقيقه الجريح عنه عن أنه أصيب أكثر من مرة في المواجهات، حتى إن إصابته التي كانت سبباً مباشراً لاستشهاده كانت في ظل عدم تشافيه تماماً من إصابة سابقة لها، وهذا تأكيد على تغلغل حب الوطن في نفسه، وأكد أن المواجهات مستمرة، لكن شقيقه همس همسة عتاب على قلة الاهتمام بالجرحى، خاصة في جانب الرعاية الصحية، وهذا يرجع إلى ضعف إمكانيات وزارة الصحة في غزة بسبب الحصار.
أما الشهيد هاشم عبد الفتاح كلاب، 18 عاماً، فقد قال والده: كنت أعلم أن ابني يعمل في تنظيم الجهاد الإسلامي، لكني لم أكن أعلم أن ابني بهذه الدرجة المتقدمة في الجناح العسكري؛ حيث إنه لم يظهر منه أي شيء يشير لذلك.
الشهيد هشام محمد عبد العال، 22 عاماً، الذي ارتقى والده شهيداً عام 2001 بقصفٍ صهيوني، فقد قال عمه عنه بأنه "كان على قدرٍ عالٍ من الانضباط والالتزام الديني والوطني، وكان ممن شاركوا بقصف المغتصبات الصهيونية عام 2014 وهو لم يكمل بعد 18 ربيعاً".
الشهيد علي خفاجة، الذي استشهد يوم 14/ 5/ 2018 قد تزامن يوم استشهاده مع يوم ذكرى ميلاد والده، وقد جلست مع والده وكادت الدمعة تسقط من عينيه وهو يتحدث عن اللحظات الأخيرة معه؛ حيث إنه خرج يوم 14 مايو/أيار في الصباح الباكر ورفع يديه مودعاً والده وأصحابه، وكأنه يشعر بأنه الوداع الأخير.
الشهيد يوسف أبوجزر، 15 عاماً، الذي استشهد بعد اجتيازه للسلك الزائل -إن شاء الله- وتم احتجاز جثمانه عند الصهاينة، فأنا شخصياً أشهدُ له بحسنِ الخلق باعتباره جاري في المنطقة التي أسكن فيها فقد كان ملتزماً بالصلاة في المسجد، وخاصة الفجر.
الشهيد عبدالله الشمالي، هو نجل شهيد أيضاً وقدر لله لي يوم إصابته رؤية والدته في المستشفى الأوروبي أثناء زيارتي لأحد أقاربي الجرحى، رأيتها تبكي بحرقة؛ لأن إصابته خطيرة جداً، وقد استقبلنا أهله استقبالاً جميلاً، وعبَّروا عن فخرهم بتقديم اثنين من أبناء العائلة شهداء.
ختاماً.. إن ما وجدناه في نفوس أهالي الشهداء يعبّر عن غالبية الشعب الفلسطيني الذي لا يبالي بتقديم الكثير من التضحيات من أجل الدين والوطن، وشعارهم: "اللهم خُذ من أموالنا وأنفسنا حتى ترضى".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.