الحق في النسيان

الحياة قصيرة وجميلة، قبلنا بذلك أم لا.. وهي أجمل عندما نمنح لأنفسنا الحق في عيشها بكل الشغف والفرح الممكن، فلا مجال لأحزان نجرها معنا عمراً وأكثر ولا مجال لتجارب فاشلة تقيدنا بأغلالها سنوات طويلة، فالفشل ليس عيباً والألم ليس جريمة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/30 الساعة 06:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/30 الساعة 06:57 بتوقيت غرينتش

لكل منا دولاب واحد أو أكثر داخل ذاكرته الكبيرة، يحتفظ فيها بمجموعة أحداث، حزينة، مؤلمة، محبطة، شاقة.. يخشى إيقاظها حتى لا تثير الفوضى داخل عالمه الهادئ، كأنها فتنته النائمة وملعون هو إن أزعج غفوتها، لكنها لا تلبث أن ترفع جفونها وتستفيق لتلوث الأجواء كلما حلَّ مكروب ما.

فمع المطب الأول أو العائق الأصغر، نفتح دواليب همومنا ونجلس داخلها نصارع طواحين دون كيشوت الهوائية، ونسامر أحزاناً غابرة مضى عليها زمن وولَّى، محتفظين بها لا لشيء، فقط رغبة في إغراق أنفسنا في لجة الضيم والمظلومية.

أعرف أشخاصاً كثراً، إذا ما واجه أحدهم مشكلة ما في الحياة، جلس يناقش مشاكله القديمة ويفرش أحزانه ومآسيه ويذكر مصائب أصابته سنوات مرت، ويتباكى على حظه العاثر الدائم، وأنه لم يرَ يوماً طيباً طوال حياته، فبسبب معضلة صغيرة أخرج من قاع روحه حزناً آسناً وراكداً يتجاوز عمره أجيالاً متتابعة.

وتجد بعض السيدات أيضاً، كلما نشب عراك زوجي داخل بيتها، أو هجرها زوجها، أو جرحها بكلمة، تسمَّرت أمام حقيبة أحزانها وأخرجت قصة حب عاشتها قبل هذا الزواج، تبكي على فارس أحلامها الذي تركته، وغالباً هو من يكون قد تركها، وتُمني نفسها أن لو كتب لها وتزوجته لما عاشت ما تعيشه الآن مع هذا الزوج الشرير، تبكيه وتبكي حب مراهقتها الساذج، وتجعل همها مضاعفاً، فعوض أن تكظم غيظها عن كلمة صدرت من زوجها لحظة غضب وتصون عِشرة سنوات.. تتجاوز ذلك لترثي حظها العاثر وحزنها الدائم وحياتها مع هذا الزوج الذي غادرتها الفرحة منذ أن ولجها وخطأها في القبول به كزوج.. تبكيه لأجل صعلوك تركها عند أول منعرج، وتُحمِّل الزوج الذي صانها وأحبها وحماها ومنحها اسمه وشرفه كل آلامها وأحزانها وجنونها؛ لأنه لم يتمالك نفسه في لحظة ضعف بشري.

الذاكرة هي تلك الحقيبة التي تحتوي ماضينا سعيده وحزينه، تخبئ لنا خلاصات كل تجربة نمر بها، فبمجرد سماع أغنية معينة أو شم رائحة معينة أو رؤية منظر ما، يقوم الشخص من حينها باستجلاب كل ذكرى خزنها يوماً من خلال تلك الرائحة أو المنظر أو الأغنية، وهناك تعود إليه الذكرى بثقلها، قد يسعد ويبتسم إذا كانت جميلة وحلوة.. وقد تضيق بها نفسه وينقبض بها قلبه إذا كانت عبارة عن بؤس عشته.. وتركه كما هو، بؤساً يعشش بداخله.

كل تجاربنا تلزمنا بأن نحاورها ونناقشها، خصوصاً إذا كانت سيئة، فتجاهلها وتركها على أمل نسيانها ليس حلاً.. فلن تُنسى ما دمنا نخشاها ونخشى مواجهة حقيقتها، فكل فشل أو ألم أو انفصال، يجدر بنا نقاشه واكتشاف جانبنا من المسؤولية عنه وتصويب اعوجاجنا الذي كان سبباً في كل ذلك، والأهم التصالح مع هذا الحزن الذي سببته لنا تجربة سيئة، فلن ينقذنا من ذكرياتنا المؤلمة سوى السلام الذي نعقده معها بتقبلها، بمصالحتها، بالتسامح مع أخطائنا ومعرفتها واحتضانها من أجل تحسينها ومعالجتها.. لكن أن ندير أظهرنا لكن حادث أليم ونتجنب ذكره أو مناقشته حتى لا نتأذى، فنحن كمن يخفي جثة داخل حديقة بيته، سيأتي يوم عليها لتنشر رائحة الموت في الأجواء.. وسيكون الألم مضاعفاً؛ ألم معالجة الروائح القبيحة وألم التخلص منها من جديد.

الحياة قصيرة وجميلة، قبلنا بذلك أم لا.. وهي أجمل عندما نمنح لأنفسنا الحق في عيشها بكل الشغف والفرح الممكن، فلا مجال لأحزان نجرها معنا عمراً وأكثر ولا مجال لتجارب فاشلة تقيدنا بأغلالها سنوات طويلة، فالفشل ليس عيباً والألم ليس جريمة.

الجريمة هي أن لا نمنح لذواتنا الحق في النسيان، والنسيان يتأتى لنا عندما نصالح ماضينا ونتقبله ونبتسم له بحلوه ومرِّه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد