نحن لا نرث الأرض عن أسلافنا بل نستعيرها من أبنائنا" – أنطوان دو سانت أكزوبيري.
استعارة من بعض الأمثال، يبدو أن قُطّاع الأشجار في غابات الأمازون قرروا أخيراً أن يفعلوا شيئاً من أجل البيئة، من الآن فصاعداً سيضعون وقوداً دون رصاص في مناشيرهم. إنه نفس المنطق الذي تتم به مقاربة مشكلة البيئة والاحتباس الحراري اليوم، فالقليل من يتحدث عن أصل المشكلة وعن أسبابها الحقيقية، والأكثرية تبحث في تطوير النجاعة الطاقية للمناشير حتى لا تنبعث كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون عند قطع الأشجار.
العالم اليوم يقارب مشكلة البيئة دون أن يتحدث عن سببها الفعلي، دون أن تكون له الجرأة ليقول بكل وضوح إن أصل المشكلة يتجسد في ثقافة الاستهلاك والتطلعات المتزايدة والمتنامية لسكان هذا الكوكب، فحراس معبد الاستهلاك كُثر ومصالحهم تتصادم مع مصلحة البيئة، والأصفار الكثيرة في أرقام معاملاتهم تجعل كل حديث عن الدببة القطبية أو الغابات الاستوائية أو الجزر المهدد بالانقراض ضرباً من الهزل واللامعنى.
الشركات العابرة للقارات، البورصات العالمية، البنوك، ولوبيات الإعلام والاقتصاد والتجارة العالمية مستفيدة من الوضعية الحالية تتطلع وتخطط لمضاعفة أرباحها ونفوذها في الأسواق، وهي لا تفهم إلا منطق المنافسة والعرض والطلب وتبحث كل يوم عبر أذرعها الإعلامية من أجل خلق حاجات جديدة لدى المستهلك والزيادة في معدلات الاستهلاك، وإغراق الأسواق بأنواع المنتجات التي ترتقي رويداً رويداً في ثقافة الإنسان البسيط، وسلم حاجاته من الكماليات إلى الضروريات.
قد تتقمص هذه الشركات بين الفينة والأخرى دور المدافع عن البيئة عبر إجراءات بروتوكولية فولكلورية تحوم حول المشكلة، دون أن تقتحم حماه أو تقدم له حلاً حقيقياً وفعلياً، ولكن الحقيقة تكمن في أن العالم اليوم يسير في منحدر سحيق، وأي فعل حقيقي من أجل البيئة سيقتضي التوقف أولاً عن الانحدار ثم الصعود في الاتجاه المعاكس، وهو ما تنوء به قوانين نمط عيش الإنسان وأطماع تلك الشركات في الوقت الحاضر، ولا تستطيع تحمله.
إن فكر الحداثة نفسه الذي يراد له أن يكون مرجعية وجدان الإنسان العالمي اليوم يناقض أي تدابير جوهرية لحماية البيئة. فالحداثة بتعبير المسيري هي تبنّي العلم والتقنية المنفصلين عن القيمة، أي تسخير الطبيعة والإنسان من أجل زيادة الاستهلاك والوفرة في المنتجات دون أي علل غائية أو قيمية لهذا النمو والتقدم.
والإنسان الحداثي اليوم يسعى لزيادة الإنتاج من أجل زيادة الاستهلاك، ولزيادة الاستهلاك من أجل زيادة الإنتاج، ويدور في هذه الحلقة المفرغة التي من أجل ضمان استمراريتها لا بد من استنزاف الموارد الطبيعية ومقدرات الأجيال القادمة، ولا بد من إنتاج مخلفات عن التصنيع يصعب تدبيرها تدمر البيئة وتسبب اختلالات كبيرة في التوازنات الفيزيائية والبيولوجية للكرة الأرضية.
إن البحث في حلول من أجل البيئة دون انتقاد ومراجعة للفلسفة والثقافة المادية الحداثية يشبه معالجة السرطان بالمسكنات ومعالجة أعراضه على الجلد مثلاً بواسطة المستحضرات التجميلية.
أميركا لوحدها فقط مسؤولة اليوم عن خُمس انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، والإنسان الغربي بصفة عامة حقق الرفاهية و"التقدم" بتكاليف باهظة على البيئة وثمنٍ غالٍ أداه ويؤديه سكان الكوكب كلهم، رغم أنهم لم يقتسموا غنيمة التطور مع الإنسان الغربي ولا جنوا ثماره معه.
هذا الإنسان الغربي اليوم إذ يرتدي جبة الواعظ في مجال الحفاظ على البيئة يشبه شيخاً قضى شبابه في اللهو والمغامرات الغرامية وهو يريد اليوم أن يعظ الشباب ويدعوهم إلى "الطريق المستقيم"، مع أنه لا مؤشرات جادة تدل على توبة الشيخ نفسه من أفعاله ولا أعمال صالحة له اليوم يجبّ بها زلات شبابه.
ربما نتفهم في ضوء هذا تلكؤ بعض الدول كالهند في الموافقة على اتفاقيات المناخ، فالإنسان الأميركي مثلا يستهلك 60 مرة ضعف ما يستهلكه الهندي من الكهرباء، ولا يمكن لهذا الأخير أن يوقف البحث عن التطور والرفاهية ويتشبه بإنسان قضى وطره من التقدم وحقق مستويات مهمة في الانتعاش الاقتصادي، هذا إن كان هذا الأخير يفعل حقاً شيئاً من أجل البيئة والحفاظ عليها.
إن حل مشكلة البيئة وتفاقم الأضرار على مكوناتها لن يتأتى إلا بتغيير نمط عيش وتفكير الإنسان وتربيته على ثقافة التجاوز والقدرة على التحكم في غرائزه وتطلعاته.
إن القيمة والمعنى إذ يغيبان من تلك التطلعات والأمنيات يحيلانها إلى تنافس محموم حول الأشياء تغيب عنه النزعة الإنسانية واحترام البيئة ومقدرات الأرض، فهذه السلع التي تغزو الأسواق وهذا الإعلام الذي يروج لها يشكل "المثير"، وإقبالنا على تلك السلع وتأثرنا بذلك الإعلام يشكل "الاستجابة"، وثقافة الاستهلاك في العصر الحالي تريد أن تمحو المسافة بين المثير والاستجابة، أي أن تَحْدث الاستجابة أوتوماتيكياً وآلياً بعد كل مثير كيما يسقط الإنسان رأساً في حيز الحيوانية والتشيؤ.
فغياب المسافة يعني غياب النقد والتفكير في العواقب وانتفاءَ التساؤل حول مدى الحاجة لتلك السلعة والانخداع السهل بألاعيب الإشهار.
إن الحل يكمن في عدم الانصياع والتكيف مع ثقافة الاستهلاك التي تتم عولمتها اليوم، وتربية الأجيال القادمة على تدبير الندرة والتعامل العقلاني مع الوفرة وعدم الإسراف في طلب الكماليات، وكبح التطلعات، وترسيخ البعد الأخلاقي والروحي في الثقافة المجتمعية بدل تغوُّل البعد المادي المحض.
هذا فقط ما سنستطيع من خلاله أن نسلم لأبنائنا أرضاً صالحة للعيش، هذا فقط ما سنستطيع بواسطته إيقاف اجتثاث الأشجار بدل الاكتفاء بتغيير نوع الوقود المستعمل في المناشير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.