منذ أربع سنوات وأنا يستحيل أن أخرج دون أضع نوعاً من إكسسوارات الشعر تحت غطاء رأسي حتى يستقيم بشكل معين، وصل بي الحد أني قد أُلغي خرجاتي وأسفاري إذا ضاع هذا الإكسسوار البسيط في ركن من أركان البيت، اعتدتها واعتدت شكلي بها حتى خُيل لي استحالة شكلي بدونها.
حتى جاء يوم ولسبب ما لم أضعها.. ثم خرجت، فلم يحدث شيء، أشرقت الشمس بموعدها وامتلأت الشوارع بمنبهات السيارات المزعجة، وفتح أصحاب المحلات محلاتهم وباع مَن باع واشترى مَن اشترى.. لم يقع شيء في مُلك الله حين غيّرت ما جعلته قيداً وشرطاً أساسياً للخروج، وبدونه يستحيل أن أواكب حياتي العادية.
يا لَلسخف والحماقة! منذ ذلك اليوم فهمت معنى كبيراً جداً كان ربما غائباً عني لسبع وعشرين سنة: سجن العادة، وحصار التأقلم، واستعباد الاعتياد، لقد حكمت على نفسي لمدة أربع سنوات بالانصياع لشكل معين، ورضيت بأن أجعل كل سفرياتي وخرجاتي مقيدة بوجوده، قمة الغباء جعلتني أندهش.. كيف بنيت حولي هذا السجن الواسع وزيَّنت جدرانه وتفننت في تطريز ستائره، فالأمر أكبر من مجرد إكسسوار، أو حلق أو لباس معين.
السجن كان سجناً من المعتقدات والمسلَّمات التي نخلقها بأنفسنا، فنعتادها، فنتشبث بها، فنسلّم لها، فتتأله علينا، فتستعبدنا، ثم تستنزف آخر قطرة شغف فينا، فنلاقي مصيرنا البئيس.. مصيراً مكوناً من جمود الموتى وزفرات الأحياء.
يعرّف الفيلسوف الفرنسي برودوم الأشخاص الذين استولت عليهم العادة وكبَّلت أيامهم بكونهم بشراً بوجوههم وآلات بحركاتهم، وهو تعريف صادق لحالاتنا التي نتقمصها خلال حرب الاستنزاف التي تخوضها ضدَّنا عادة وليدة عقولنا البشرية في لحظة ضعف وانتكاسة، أو عادة ربما ترسَّبت لنا من خلال موروث ثقافي خاطئ لم نمنح لوعينا الفرصة لرفضه، أو من خلال تبعية جاهلية أو اعتقاد ديني زائف زرعه فقيه أو شيخ داخلنا لم نرجعه لما جاء به الكتاب السماوي.
المسلَّمات الاجتماعية والإيمانيات العرفية كلها عادات اخترعها شخص ما في زمن ما، اختلفت ظروفه عن ظروفنا، ووعيه عن وعينا، وثقافته عن ثقافتنا، جعل من عادته دستوراً سار عليه فلحق به مَن لحق، فوجدنا أنفسنا نرفض الرومانسية باسم الدين؛ لأن أجدادنا كانوا يستحيون، وتخجل الفتيات من أجسامهن الممتلئة؛ لأن إحداهن يوماً اخترعت شكلاً معيناً للجمال وقياسات معينة ورسوماً محددة، فاعتادت عليها، فسربت عادتها لمن حولها، نغيّر ملامحنا لأن الخيال العالمي خلق لنا عادة التجميل الجراحي وإبر البوتوكس، نتدخل في حريات الآخرين باسم النصيحة والوعظ؛ لأن مجموعة من الناس يوماً ما اكتشفوا أنهم سعداء بحشر أنوفهم داخل خصوصيات الآخرين، فاعتاد خَلَفُهم الأمرَ وأصبحوا يسيرون في الشوارع يقرعون هذا وتلكم، ويجردون هذه من ملَّتها، والآخر من رجولته فقط لأنهم اعتادوا وألفوه.
العادة عندما تتحول لاعتقاد، والاعتقاد عندما يصير ديانة تغذو الحياة شراً مستطيراً، وقد تدمر العادة مجتمعاً برمَّته.. وأمة بجلال قدرها.
كل ابن آدم مقهورٌ بعادات ** لهنَّ ينقاد في كل الإرادات
يجرى عليهن فيما يبتغيه ** ولا ينفكُّ عنهن حتى في الملذات
قد يستلذُّ الفتى ما اعتاد من ضرر ** حتى يرى في تعاطيه المسرات
كما عوَّدنا معروف الرصافي بوضع يده على مكمن الجرح بأبياته الجميلة، ها هو الآن في هذه الأبيات يقرب لنا معنى اعتياد الضرر والانصياع للعادات الذي قد يوهم الشخص بأن ما يتعاطاه ما هو إلا نشوة ومسرة وسعادة، والواقع أنه دمار وضرر شنيع.
العادة سجن كما يصفها روسو ودوركايم وغيرهما، وعائق أمام التغيير الذي يطمح له كل كائن عاقل، وهي مقبرة واسعة للتجديد، فمن اعتاد نفسه فوق كرسي أمام مكتب يقوم بنفس الأعمال كل يوم، ويتسلم نفس الراتب كل شهر، ويغرق كل سنة داخل مكتبه الصغير، هو شخص قد طرز كفنه بيده، وجعل العادة التي استسلم لها، وتوهم أنها أسهل طريق لحياة جيدة، ساطوراً دقّ به عنق مسيرته.
مَن اعتادت النوم حتى ضُحى النهار واستسلمت لمعتقداتها التي صنعتها من اعتيادها الخمول والكسل وفضَّلت العادة التي توصي النساء بلزوم بيوتهن على الإرادة التي تدعو الإناث لتحقيق ذواتهن في العمل أو الدراسة أو الفن أو الرياضة.
العادة ما لم تكن ذات مغزى، وما دامت فارغة من أي حمولة إيجابية تضيف للشخص قيمة مميزة، أو تساعده في اكتساب مهارة معينة، فهي نوع من أنواع الإدمان المدمر، الذي يكبل حياة الشخص ويجعله مستباحاً لليأس والتواكل وخانعاً لعاداته.
قد تذهب بنا العادة بعيداً عندما يتعلق الأمر باعتياد الحياة رفقة شخص معين، شخص قد يتسبب لنا في الألم والتعاسة والقلق والتوتر، يحطم طموحاتنا بسلبياته، ويقلل عزيمتنا بتقريعه وتجريحه، يحصل هذا الأمر غالباً داخل العلاقات العاطفية بين الجنسَين، حيث تعثر مرات على ثنائي يستنزف أحدهما طاقة الآخر كلها، دون أدنى احتجاج أو رفض من الطرف الآخر.. وكل ما يبرر به هذا الطرف المستنزف حالته المنهكة.. أنه اعتاد وجود شريكه في حياته ولا يستطيع أبداً أن يعيش بدونه، التعود هنا على شخص يسيء لمسار حياتنا، هو بمثابة التضحية بكل لحظة راحة وطمأنينة لأجل التشبث بعادة اكتسبها عقلنا ووعينا تتلخص في استحالة العيش بدون شخص ما.
الواقع أنه لا يوجد شخص لا نستطيع الاستمرار في الحياة من دونه، إلا ما أوهمنا به فكرنا وتصورناه ملاذنا الأوحد.. وإن كان هذا الملاذ ليس سوى منفى بعيد بارد موحش.
العادة تقابلها الإرادة، وتسحقها العزيمة، العادة السيئة لا تذهب وحدها بكبسة زر، بل تحتاج منا كل القوة الآدمية التي نمتاز بها، أن تنتفض في وجه عمل تكرهه دوامته واعتدته فتغيره لما يليق بشغفك هو مسألة إرادة حرة قوية، تمتلكها عندما تؤمن أنك سجين عادة يجب عليك التخلص منها، فتحارب وتقاوم أياماً وأسابيع وربما شهوراً طويلة دون استسلام، فطرد عادة أشبه بطرد المحتل، يحتاج منك مراوغة وطول نَفَس وعدة وعتاداً.. وكثيراً من الصبر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.