اهتزت الساحة الأردنية لمقتل الكاتب والسياسي المثير للجدل ناهض حتر برصاصات ثلاث في الرأس، الحادثة وقعت أمام قصر العدل في العاصمة عمان، وفي وضح النهار، والأخبار الأولية تشير إلى تورط أحد المنتسبين للتيار السلفي في الحادثة.
وللتذكير فإن أحد الرسوم التي نشرها الكاتب الفقيد قد تسبب في موجة من السخط في الأوساط الأردنية التي رأت فيها إساءة للذات الإلهية، بينما رد حتر والمدافعون عنه بأن المقصود بالرسم الكاريكاتوري ليس الذات الإلهية، وإنما الفكر المتشدد الذي انتشر في منطقتنا انتشار الديدان في الجثث المتحللة، والأخاديد في الأراضي المتزلزلة.
الرصاصة الأولى صوب كل من يتخذ من القلم أو المصدح سلاحاً لن تتسبب إلا في مزيد من الفتن في هذا الوطن المنهك المكلوم، وإيماني غير المنقطع بنظرية المؤامرة يجعلني أميل كثيراً إلى الاعتقاد بوجود أيادٍ خارجية تسعى للعبث بأمن الأردن وإلحاقه بقائمة الدول التي نعقت في أرجائها الغربان والبوم، فعملية الاغتيال هذه، إن لم تتم معالجتها بحكمة تراعي النمط العشائري للملكة، قد تتسبب في انقسام المجتمع بين من يرى في الجريمة رداً طبيعياً على ما يمكن قراءته إساءة للدين الإسلامي، وبين من يرى فيها استهدافاً لأصحاب الفكر الآخر، وللتذكير فإن الاغتيالات السياسية طالما مثلت الشرارة الأولى لاندلاع الحروب والفتن، سواء في أيامنا هذه أو في العقود والقرون الغابرة داخل الوطن العربي أو خارجه.
ولنا في تونس تجربة مماثلة كادت تأتي على السلم الأهلي لولا حكمة الشارع التي تفوقت على حماسة السياسيين، فقد أوشكت الأحداث أن تأخذ منحى خطيراً إثر اغتيال المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، لولا حرص أبناء تونس على الحفاظ على السلم والتعايش وتفويت الفرصة على المتربصين بالبلاد، كما نذكر أيضاً المأزق الذي دخله لبنان والمنطقة، إثر اغتيال رفيق الحريري منذ سنوات خلت، وكيف جرى تدويل القضية؛ ليتمكن الغرب بعد ذلك من التحكم مجدداً في سياسة بلد الأرز، ورغم مرور أكثر من عقد من الزمن لم يتمكن القضاء الدولي من الكشف عن الجناة؛ لأنهم ببساطة لم يكونوا يوماً الهدف الحقيقي وراء عملية التدويل، فسلاح حزب الله وإجبار الجيش السوري على إعادة الانتشار هما الغاية من الاغتيال ومن التدويل.
وكما يحتفظ تاريخ العرب قديماً وحديثاً بحوادث اغتيال سياسي كثيرة، فإنه يحتفظ أيضاً بدروس من أسلافنا العرب في تفويت الفرص على العابثين بالأمن، ونضرب مثلاً بحادثة مقتل سعد بن عبادة، ذلك الصحابي الأنصاري الجليل الذي عرف عنه الكرم والشجاعة ونصرة الضعيف، وكان مرشح الأنصار لخلافة الرسول الكريم، أي أنه وبمفرداتنا الحديثة اليوم كان مرشحاً لرئاسة الدولة الفتية آنذاك، اجتمع حوله من الأنصار من رأوا فيه أهلاً لقيادة البلاد ولمجابهة التحديات الكثيرة القائمة، لكن قادة القوم وكبار الصحابة آثروا مبايعة المرشح الآخر، وهو الصحابي أبو بكر الصديق، بعد اجتماعهم الشهير في سقيفة بني ساعدة، وهي النتيجة التي لم يقبل بها ابن عبادة، فاختار الرحيل من دون أن يبايع خصمه، ومن دون أن يقبل بنتيجة المباحثات، وبعد مرور سنوات قليلة من البيعة تمت تصفيته في بلاد الشام بسهم أصاب قلبه وأرداه قتيلاً، وسواء أكان قاتله غريماً سياسياً أو أحد المتحمسين لغيره أو طرفاً ثالثاً أراد بالأمة سوءاً، وسعى لتفتيتها، فإن حكمة العرب قد تجلت في أبهى مظاهرها، إثر إلصاق التهمة بالجن.
عرف عن العرب قديماً أنهم طلاب ثأر لا يهدأ لهم بال حتى يقتصوا لفقيدهم من قاتله، ويقول المهلهل في ذلك:
"فقتلاً بتقتيل وعقرا بعقركم ** جزاء العطاس لا يموت من اتأر
وكان هذا الشاعر الجاهلي قد قاد حرباً لعقود طويلة انتقاماً لأخيه الذي قتل غدراً، وأمام هذه الرغبة العربية المتأصلة في الثأر والقصاص وجد المسلمون أنفسهم أمام خيارين اثنين؛ إما السعي للقصاص من قتلة سعد بن عبادة، وإشعال الفتنة بين الأنصار والمهاجرين، وقد آخى الرسول الكريم بينهم، فاقتسموا الزاد والمسكن، وإما إقناع الجميع بأن الجن حملت السلاح وأجهزت على سعد، وكانت الحكمة العربية الفقيدة اليوم قد تجلت في الترويج لهذه الرواية التي أسهمت في تأجيل فتنة المسلمين إلى بضع سنوات قادمة، وحقن كثير من الدماء، وإن أبدى البعض اليوم سخريته من هذه الرواية، فإني أرى فيها أجمل تجليات الفطنة والاستشراف وتغليب المصلحة العامة، وتفويت الفرصة أمام الأيادي الآثمة التي أرادت بالأمة سوءاً بإقدامها على أول عملية اغتيال سياسي في الأمة الإسلامية.
الحكمة من هذه القراءة للتاريخ هي ضرورة تفويت الفرصة على العابثين، واستلهام روح المسؤولية والإيثار من أسلافنا الذين حقنوا دماءهم وفوتوا الفرصة على المتربصين بهم، يقيناً لم تقتل الجن سعداً ولم تدخل ذلك الصراع السياسي بين مرشحي الخلافة، لكن إلصاق التهمة بها قد قتل الفتنة أو أرجأ قدومها الحتمي، وعملية الاغتيال الأخيرة التي حصلت في الأردن، واستهدفت شخصية أثارت كثيراً من الانزعاج لدى المحافظين والغيورين على مقدساتهم، تهدف بشكل لا لبس فيه إلى شق الصف الأردني، وإدخال المملكة في دوامة الثأر والقصاص التي لا تنتهي إلا بفناء البشر، كأن لم يكفِ هذه الأمة ثارات الفتنة الكبرى التي لن تنتهي إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ولم تكفها دعوات الثأر التي لا يكاد يخلو منها قطر واحد من المحيط إلى الخليج.
في بلد بات السلاح فيه منتشراً بشكل لافت لا أستغرب حدوث عمليات انتقام وثأر، كما لا أستغرب وقوف الكيان الصهيوني بشكل أو بآخر وراء العملية رغبة منه في إنهاك العرب في حروب لا تنتهي، وما على العقلاء إلا تغليب المنطق والتمسك بإعلاء القانون الداخلي للبلاد، وإن كانت الرسالة الأخرى الأكثر إلحاحاً التي أود إيصالها عبر هذا المنبر هي ضرورة عدم التعرض للمقدسات في معالجة الظواهر السياسية الطافية على السطح.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.