فقط في بلادي يصفون أبناء سيناء وكأنهم "إنسان الغاب"، فقط في بلادي ينسون، أو يتناسون أنه لولا فضل الله ثم فضل أهل سيناء لما عاد شبر واحد من تلك الأرض لأحضان مصر، بغض النظر عن أي اتفاقية عرقلت مسيرة تنمية سيناء ووضعتها على قائمة الانتظار طوال ستين عاماً أو ما يزيد، فقط في بلادي يلخصون سيناء في مشهد لجبال شاهقة ومساحات صحراوية قاحلة فارغة ورجل يرعى الأغنام والإبل.
نعم كل ذلك موروث من أنظمة فاسدة تعمدت إيذاء سيناء وأهلها وتهميشهم، ومائة عام أو ما يزيد غيبوها فيها عن الحياة، وإعلام منمط يتقن بث الدعاية السوداء حتى التصديق، وسياسيين يتفنون في الترهيب والترغيب الديماجوجي "الدماغي" في أروع صوره التي أرعبت أفلاطون يوماً في ديمقراطية أثينا القديمة.
وقبل أن أتحدث عن الظروف والأحداث التي أوصلت سيناء لما آلت إليه الآن، أود الإشارة إلى دور هؤلاء الأبطال المجاهدين من أبناء سيناء، مستعرضاً شاهداً على ذلك، وهو مؤتمر الحسنة في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1968م، الذي رفض المجتمعون فيه من أبناء سيناء فكرة تدويل سيناء، وكان قرارهم بمثابة الصفعة على وجه المسماة إسرائيل.
سيناء اليوم تُعاني أشد المُعاناة، فلا أعلم ماذا تلد سيناء الآن هل كما عهدناها ستلد ولداً يكبر ليكون هو نفسه، يكبر ويكمل درب أجداده، أم ستلد جريمة؟! جريمة تتجسد في عقول أطفال رأوا أنفسهم ضحية لذنب لم تقترفه أيديهم، وفي طموحات طلاب أرادوا أن يكملوا مسيرة تعليمهم ليقودوا هذا البلد للمعالي، لكن ما يحدث لهم يحول بينهم وبين ذلك المنال الذي أصبح أقرب بالمستحيل.
لك الحق فى أن لا تسمع ببدو سيناء، أو لا تعرف عنهم إلا إنهم مجرد أناس يعيشون بالصحراء، ولك الحق في تصديق قصص وحكايات "خرافية" ليس لها أساس من الصحة، فى ظل التهميش والإقصاء المقصود من قِبل الحكومات المسيطرة وإعلامها الذي يفرض التعتيم والتجاهل للبدو فى سيناء، بل ومحاولة محو وطمس هويتهم العربية البدوية بكل الوسائل، فمثلاً يمنع الأطفال من الذهاب إلى المدارس بزيهم البدوي، ويفرض بدلاً منه الزي الأفرنجى بشكل إجباري، وكذلك بالنسبة للموظفين من أبناء البدو، وكذلك نُمنع من ارتداء زينا العربي البدوي في الصور لبطاقات الهوية وجوازات السفر بحجة تطبيق القانون، ونصور مثلهم عاريي الرؤوس، كما قال الشاعر البدوي "عنيز أبوسالم" مصوراً ذلك:
(اثنين على المكتب وستة على الباب
والرجل يقلط كما الجمل ف الكمامة
وخلوا مناومنا فوق روس الأهظاب
وأكره عليهم لبس العقال وعمامة).
بدو سيناء ينحدرون من قبائل عربية أصيلة من اليمن أو شبه الجزيرة، بل مِنّا قبائل لها فروع أو جذور هناك حتى الآن، وهذه القبائل كانت على حِل وترحال وعلى اتصال دائم ببعضها، وكانوا يسافرون بالإبل أو الخيل وغيرها، أو حتى يغزون بعضهم البعض، ويأخذون الحلال "الأغنام والماشية" والمغاتير أيام حكم الخلافة العثمانية، إلى أن جاء الاحتلال الإنجليزي وقسم البلاد العربية إلى دويلات، ووضع الحدود وساعد فى قيام دولة اليهود (إسرائيل) التي رسخت من هذه التقسيمات، وأغلقت الحدود نهائياً في وجه البدو وهجراتهم وتنقلهم عبر البوادي العربية، وذلك باحتلال صحراء النقب ورأس خليج العقبة، الذي كان يمثل المعبر البري لقوافل البدو.
أقل من سبعين عاماً هي عمر التغيرات التي طرأت على المنطقة العربية قليلة نوعاً في عمر الشعوب، ولكن تأثيرها كان فعلاً كبيراً، فقد صاحبت ذلك الاكتشافات البترولية فى شبه الجزيرة والطفرة الاقتصادية الكبيرة، وتحول بالتالي نمط الحياة هناك، وانتقال الكثير من القبائل إلى طور التحضر والمدنية وشبه انقراض القبيلة هناك بمفهومها القديم، وإن ظلت مشاعلها في بعض الصدور.
بعكس سيناء وبواديها فقد ظلت مهمشة ومسرحاً للحروب الكبرى بين العرب وإسرائيل، ثم تعرضت للاحتلال الإسرائيلي، ثم العودة للسيادة المصرية المشروطة (كامب ديفيد)، ومن ثم عودة سيناء إدارياً لجمهورية مصر، لكن هجم السلطويون بشركائهم ورجال أعمالهم المشبوهين والمتعاونين مع أصحاب السلطة والنفوذ على أراضي بدو سيناء المطلة على شواطئ سيناء الجميلة بشرم الشيخ ونويبع وطابا ورأس محمد والعريش وعزل شواطئ رفح والشيخ زويد بأوامر سيادية عليا، قاموا بذلك بعد أن سنت الحكومات الفاسدة القوانين التي جعلت فيها كل أراضي سيناء ملكية عامة للدولة، واعتبرت فيها أن البدو أغراب وأعراب رحّل، وأنهم معتدون على أراضي الدولة المصرية بعد أن جاءوا وإبلهم وأغنامهم من صحاري الجزيرة العربية وبلاد الشام، ومنعت منعاً باتاً تمليك البدو وأهل سيناء لأراضيهم التي نزعتها منهم، وباعتها للمستثمرين ولم تعترف بالحيازات التي يقدمها البدو، على الرغم من أن بعضها يعود إلى المملكة المصرية الخديوية وإلى العثمانيين (الأتراك).
لكن لا بأس فكل هذه العوامل زادت من ترابط وتماسك البدو بعضهم ببعض، وفضلوا عدم البوح بجرحهم النازف إلا لمن يرون فيه فعلاً القدرة على تضميد جرحهم وتطهيره، هذا الأحمر القاني الذي ما زال يسيل على رمال سيناء سيظل شاهداً على بطولة أبنائها، فسيناء وأهلها لا يريدون اليوم إلا فتح هذا الباب الموصد، مؤكدين أنهم لم ولن يضعفوا في نهاية المطاف، أقسموا ألا تسقط قلوبهم في شرك الهدب الأسود، كما أقسموا ألا يدخلوا لغلاف يحتويهم كالسلحفاة، أقسموا أن يظلوا أبطالاً صامدين على مبادئهم، لكن سؤال أترك إجابته للسادة السياسيين والإعلاميين "إلى متى ستظل معاملة سيناء وأهلها أحادية لا تنسلخ عن أفكار زرعت منذ 60 عاماً أو ما يزيد؟ وإلى متى ستظل سيناء على قائمة انتظار مِنّة الحكومة؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.