امتحان الرأسمالية.. هل تخرج منتصرة من أزمة السوق؟

-كما يؤكد شيللر- لن تؤدي إلى نتائج بعيدة المدى للمخاطر التي ستفرزها إجبارية الأداء على الثروة، وكانت دول كثيرة قد اتخذت مثل هذا القرار وتراجعت عنه كفنلندا وأستراليا والدانمرك وإسبانيا والسويد وألمانيا.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/04 الساعة 05:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/04 الساعة 05:07 بتوقيت غرينتش

كان الميلاد الحقيقي للرأسمالية، كما أخبرنا بذلك الفيلسوف الاقتصادي وعالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في تحفته الأدبية: أخلاق البروتستانت وروح الرأسمالية، عندما بدأت أخلاق البروتستانت وخصوصاً الكالفانيين، تنتشر في أوساط شعوب أوروبا الشمالية. وترتكز هذه الأخلاق على دعوة الناس إلى العمل وخلق التجمعات التجارية، وهي المرادف للمقاولة عندنا، وإلى الابتكار والاستثمار في رؤوس الأموال، وكل ذلك من أجل خلق الثروة وقيم جديدة. كان بذلك البروتستانت في الحقيقة يُفعِّلون مقتضيات الإصلاح الديني والقِيمي الذي قعّدوا له إبان الثورة الدينية على الكنيسة الكاثوليكية، وفي نفس الوقت كانوا يُؤسسون لعالم جديد ستَتبيَّن معالمه فيما بعد. اندلعت الثورة السياسية فيما بعد والتي تزامنت مع ثورة الفلسفة الحديثة وتلتها الثورة الصناعية ثم الخدمات فثورة التكنولوجية الحديثة. أرجعت المؤرخة الاقتصادية والناقدة الاجتماعية ديدري ماكلوسكي هذا الانفجار المتسلسل، إلى انتشار قيم الحرية والكرامة ودعم الابتكار والمبادرات الفردية وتغير النظرة تجاه التجارة والتجار، ثم بداية وتقبل قيم السوق الحرة التي تعتمد على ما أسماه "جوزيف شومبيتر" بالتدمير الإبداعي وعلى تبني روح المغامرة وعلى فكرة النظام التلقائي للعمل الحر لآدم سميث.

غيّرت قيم اقتصاد السوق والتي يُلخِّصها البعض في الرأسمالية، العالم رأساً على عقب. فلقد انتشر الرفاه الاقتصادي للدول المنفتحة على قيم الرأسمالية، وانتشرت قيم الحرية وحقوق الإنسان وتطوّرت حياة الأفراد الإجتماعية، وساهمت عولمة هذه القيم في زرعها في بقاع واسعة وبعيدة من المعمورة. حتى أتت بداية الألفية الحالية لتبدأ انتكاسة الرأسمالية أو هكذا اعتبرها البعض على الأقل. إذ تبين أن قيم الرأسمالية اصطدمت بأول انتكاسة مالية سنة 2008 لنظامها المالي، تلته انتكاسة أقوى للنظام الديمقراطي العالمي الذي رضخت قيمه لإكراهات تنامي الإرهاب وتكالب المصالح العالمية على مصالح الشعوب ومساهمة ذلك في إفشال مجموعة من التجارب الديمقراطية الفتية في بقاع مختلفة من العالم. وَجد المعادون للرأسمالية من اليسار الاشتراكي عموماً، الفرصة لضرب قيم الرأسمالية التي ما فتئوا ينعتونها بالجشعة والمعادية لمصالح الشعوب ولأخلاق المساواة والعدالة الاجتماعية وللتوزيع العادل للثروات. هؤلاء جميعاً تنفسوا الصعداء عندما صدر الكتاب الأخير والمثير للجدل "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" للاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي.

يروي هذا الأخير قصة تطوُّر تركيز رأس المال والثروة في كل من أوروبا وأمريكا على عقود تاريخية ممتدة منذ قيام الثورة الصناعية، ليخلص إلى أن تطور تراكم رأس المال في المجتمع الغربي أدى إلى تركيزه في يد فئة قليلة سماها بالأوليغارشيا Oligarchy عبر استفادتهم مما سماها بالرأسمالية الوراثية Patrimonial Capitalism المتراكمة عبر نظام الوراثة، وبالتالي فإن توزيع الثروة غير المتكافئ أدى إلى فوارق اقتصادية واجتماعية وتوترات سياسية عديدة.

عقب اقتصاديون كثر على منهجية جمع المعلومات واستنتاج النتائج، فيما اَخرون ردُّوا بقوة على مقترحات الكاتب الداعية لفرض ضرائب متواصلة على الأثرياء لتقريب الفجوة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء. اعتبر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "روبرت شيلر" كتاب بيكيتي مهم من ناحية الموضوع الذي ناقشه والمتعلق بالفوارق الاقتصادية، ولكنه ضعيف من حيث الحلول المقترحة. ففي كتابه "النظام المالي الجديد، مخاطر القرن الحادي والعشرين"، دعى روبرت شيلر إلى حل اعتبره أكثر علمية وإبداعية عبر ما اصطلح عليه بضمانة الفوارق. ويتمحور حول عقلنة التسيير المؤدي للفوارق الطبقية بحيث تؤدي هذه العملية إلى الحيلولة دون الوصول إلى أزمة الفوارق مستقبلاً. إن فرض الضريبة المباشرة على الأثرياء قد تكون لها نتائج لحظية، لكن بالتأكيد
-كما يؤكد شيللر- لن تؤدي إلى نتائج بعيدة المدى للمخاطر التي ستفرزها إجبارية الأداء على الثروة، وكانت دول كثيرة قد اتخذت مثل هذا القرار وتراجعت عنه كفنلندا وأستراليا والدانمرك وإسبانيا والسويد وألمانيا.

يضرب كتاب توماس بيكيتي في العمق النظام الرأسمالي بشكل مباشر، عندما يُورد وطيلة عقود من الزمن، كيف أن الرأسمالية لم تفِ بوعودها إزاء ادعائها بالمقدرة على القضاء على الفقر والفوارق الاجتماعية والتضخم المالي. وتبعاً لنتائج الدراسة التي اعتمدها بيكيتي والحلول التي اقترحها، فإن النظام الرأسمالي يحوي خلالاً منظوماتياً ساهم في خلخلة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية. يدحض الاقتصادي البارز "حوزيف إ. ستيكليتز" والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، هذه الادعاءات في مقال مثير نُشر على صفحات مجلة بروجيكت سانديكايت بعنوان: الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين. فالأسواق تبعاً لستيكليتز، لا تنشأ من فراغ، فهناك قوانين وتشريعات ونُظم سياسية هي التي تنظم وتسير الأسواق، وهذه النظم السياسية هي بالضبط سبب المشكل وليس رأس المال بعينه. وعندما نتحدث عن النظم السياسية فنعني بها مخططات الحكومات التدبيرية للإقتصاديات الوطنية، والتي تفرز بطرق مباشرة وغير مباشرة نمط النمو الاقتصادي والذي ينعكس بدوره على الوضع الاجتماعي. إن الحديث إذن -حسب ستيكليتز- يجب أن ينصب على سؤال الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين، بمعنى ضرورة دَمقرطة العمل السياسي بصورة يسمح بتواجد الشفافية الاقتصادية والمساواة في الفرص ومحاربة اللوبيات وطرق تكوُّنها والمحاباة وسياسة الدعم والتفضيل المتبعة من طرف حكومات الموجهة للسوق.

قد يظن بعض الدارسين لاقتصاد السوق أن الرأسمالية في أزمة، لكن رواد الفكر الليبرالي، المؤطر لنظام اقتصاد السوق الحر والمفتوح، ما فتئوا يؤكدون أن قيم الرأسمالية تعمل بشكل طبيعي وفعال، عندما تتوفر شروط العمل التلقائي والطبيعي لقيم السوق. لذلك فالعالم الآن يعرف انتكاسة في دعم الحريات السياسية والاقتصادية وفي جعل الاسواق تعمل بحرية وشفافية ومساواة في الفرص المتاحة. وبالتالي فالرأسمالية ليست في أزمة وإنما القيم المنظمة لها هي التي تعاني من أزمة، وهي التي وجب تصحيحها وأقلمتها مع شروط وإكراهات تطورات المجتمعات الحديثة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد