بينما تئن المنطقة العربية على وقع حروب وقتال أرَّق أجزاءها، ودفع بدول عدة لم تكن بصدارة المشهد في الماضي إلى تسيد عناوين الشاشات وشرائط الأخبار، والاستفراد لها مساحات كبيرة في برامج الـ"التوك شو"، تغيب بشكل نسبي في المقابل محور القضايا العربية إن لم تكن الأهم على الإطلاق القضية الفلسطينية.
نسمع عادة وقد أصبح من الروتين العربي والعالمي المرور بسطر أو أقل في أي بيان ختامي لقمة عربية ما أو اجتماع لمجلس الأمن على أهمية فلسطين ومحوريتها والتأكيد بالوقوف إلى جانب شعبها في قضيته العادلة في كلمات لا تغدو أكثر من حبر يسال على ورق وهلم جراً.
في حين واقعياً ترى الشعب الفلسطيني يكابد جراحه وحيداً ضد هجمات إسرائيلية منظمة وحالات إعدام تنفذ بدم بارد بمباركة حكومة نتنياهو، لا بل أكثر من ذلك، فإن مجندة تستطيع أن تغلق مدخل قرية يقطنها عشرات الآلاف، بل وتوقف موكب رئيس وزراء، وحتى نزيدك من الشعر بيتاً، فإن الجيش الإسرائيلي يسرح ويمرح في المناطق المصنفة (أ)، وهي أراض تخضع لسيطرة أمنية وإدارية كاملة من السلطة الفلسطينية، فإسرائيل تدخل تقتل وتحرق وتعتقل في خرق واضح وفاضح للاتفاقيات الموقعة، أو كما يقال بالعامية "على عينك يا تاجر".
لا شك أن ما تقدمنا به من قصور واضح عربي ودولي تجاه القضية الفلسطينية -إلا من رحم الله منهم- هو انعكاس واضح لحالة اللافهم التي يعاني منها ساسة البلاد أنفسهم، فالمصالحة بين شطرَي الوطن (الضفة وغزة) أضحت خبراً للتندر والسخرية، الطرفان في معزل جزئي عن هموم المجتمع، يسابقون لتأمين وتقوية دعائم بقائهم في البقع التي يحكمون عليها فيما يظنونه استعداداً لمعركة انتخابية قادمة، يرونها قريبة، وتبدو بعيدة في الأفق المنظور.
إن الحالة البائسة اليائسة التي وصلت إليها صورة قضية فلسطين وازدادت قتامة في الآونة الأخيرة تغذيها عدة حقائق، نذكر منها:
– فشل المبادرة الفرنسية: فالمبادرة التي دعت إلى عقد مؤتمر دولي لاستئناف المفاوضات، واعتبرها البعض الرمق الأخير لإنقاذ القضية الفلسطينية من الضياع، رفضها بنيامين نتنياهو بالكامل، معتبراً إياها داعماً للجانب الفلسطيني وتشجعه على عدم تقديم تنازلات، كما أن المعارضة الإسرائيلية نسجت على منوال نتنياهو، فكتلة "المعسكر الصهيوني" التي مركزها حزب "العمل" قالت إن المطلوب مبادرة سياسية تُبقي في يد إسرائيل السيطرة على مستقبلها، وتخرجها من الضغط الدولي الذي يشتد حول رقابها.
هذه التصريحات الإسرائيلية المتطرفة تعطينا إشارة ضمنية بأنها لا تسعى للسلام، وأنها لم تعد حكراً على ما يسمى معسكر اليمين، وانتقلت إلى معسكر الوسط واليسار، فالكل يريد إبقاء الوضع الراهن كما هو عليه، أي سلطة فلسطينية بلا سلطة، وأبرز مثال على حالة التطرف التي تعيشها هذه الحكومة هو تعيين أفيغدور ليبرمان وزيراً للدفاع، الذي تعهد سابقاً إذا تولى هذه الحقيبة بالقضاء على حكم حماس في غزة، والتضييق على السلطة في الضفة، لا بل أكثر من ذلك، فقد قال إن على هنية والسنوار ومروان عيسى البحث عن قبور لهم.
حتى مؤتمر السلام الذي أعلنت فرنسا أنها ستعقده بحضور عشرين بلداً إلى جانب الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة قامت بإرجائه إلى الصيف، بسبب ازدحام أجندة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وهو ما دفع المتحدث باسم حركة حماس سامي أبوزهري للقول إن تأجيل المؤتمر يمثل دليلاً على فشل خيار التسوية.
إن تصريحات السيد أبوزهري، وإن كانت تأتي في إطار التجاذب والاتهامات المتبادلة المعهودة بين حماس وفتح، إلا أنها تكشف في مضمونها عن موطن الخلل، وهو افتقار القيادة الفلسطينية إلى الأدوات الفاعلة.
قد يقول قائل ويرد علينا بأن الدبلوماسية الفلسطينية نجحت وحققت اختراقاً كبيراً في الفترة الأخيرة في المحافل الدولية، وعرَّت إسرائيل كثيراً أمام العالم، نقول نعم. هذا صحيح، ولكن من دون أدنى شك فإن هذه الدبلوماسية ومن يشد على أيديها نراها الآن تعيش حالة من التيه والضياع، فكسب الدعم الدولي لا يغدو أكثر من كونه ذراً للرماد في العيون، إن لم يتم البناء عليه، فاليوم نرى الطريق شبه مغلق أمام القيادة الفلسطينية؛ حيث يبدو واضحاً أن أي تحرك في أروقة الأمم المتحدة سيقابل بفيتو أميركي إسرائيلي، خصوصاً في ظل انشغال الولايات بانتخاباتها، وبات جلياً، وليس خافياً على أحد، أن أقصى ما يمكن أن تفعله السلطة ومؤسساتها أمام أي جريمة إسرائيلية هو فقط إحالة الشكاوى إلى محكمة الجنايات الدولية.
– إن هذا الطريق شبه المسدود تتحمله القيادة الفلسطينية بنفسها بلا أدنى تردد، فهي التي جردت نفسها من كل جميع أدوات الضغط الفاعلة معتمدةً على الخيار الدبلوماسي كأسلوب وحيد دون التفكير بآخر، وهذا أمر وخطأ فادح، فالدبلوماسية هي جزء من استراتيجية عمل كاملة، وفاعليتها مرهونة بنجاح أوراق أخرى، كالنضال والمقاومة والدعم الشعبي لقيادته.
أما البدائل فهي كما نرى كالآتي:
1- التحلل تدريجياً من كل الاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي طالما أنه قد خرق هذه المعاهدات ووضعها في سلة المهملات، وهذا الخيار لا يعني بالضرورة حل السلطة الفلسطينية.
2- الإيقاف الفعلي للتنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي، عدا المسائل الإنسانية وغيرها الضرورية، وهذا أمر يرجع تقييمه لذوي الشأن، فلا شك أن خطوة مثل هذه ستمثل ضاغطاً إضافياً على الطرف الإسرائيلي الذي سيجد نفسه أمام مسؤوليات جسام كان في غنى عنها سابقاً.
3- إنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية بين شطرَي الوطن (الضفة وغزة)، بما يمهد لعقد انتخابات رئاسية وتشريعية لبث الروح في الحياة السياسية الفلسطينية تحت سيادة القانون.
4- تفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها بدل إقصاء أعضائها والتفرد بقراراتها، وفتح مفاوضات مع حركتَي حماس والجهاد الإسلامي للانضمام إليها، هذا فضلاً عن انتخاب أو تعيين المجلس الوطني الفلسطيني.
5- وضع استراتيجية فلسطينية واضحة للتعامل مع إسرائيل، تعتمد على خطة زمنية محددة لإنهاء الاحتلال، ويكون ذلك تحت الرعاية الدولية، وهذا الأمر يجب أن لا يقتصر على الجانب الأميركي، بل إنه بات من الأفضل أن لا ترعى واشنطن هذه المفاوضات، كونها تقف دائماً في الصف الإسرائيلي، وحيث إن هذه الخطة تعتمد على زمن محدد، فإن على السلطة أن تحل نفسها إذا لم تفضِ المحادثات خلال هذه المدة إلى إقامة دولة على حدود عام 67.
6- أما بالنسبة للقدس، فيجب السعي هنا إلى تطبيق القانون الدولي الإنساني وإلغاء الضم الإسرائيلي، وتخصيص موازنات لها، واعتماد لجنة واحدة من كل التخصصات المهنية للإشراف عليها، وتوفير دعم دولي للقسم العربي فيها.
7- المقاطعة الممنهجة للبضائع الإسرائيلية وبضائع المستوطنات، وأعني هنا المقاطعة الفعلية ليست حملات تستمر لشهر أو شهرين وتنتهي، وهذا أمر يتطلب وضع خطة واضحة وفاعلة، ونشر هذه الثقافة في المجتمع بشكل أكبر.
8- تصعيد المقاومة والنضال ضد الجانب الإسرائيلي في كافة أنحاء الوطن.
كل هذه الخيارات وغيرها هي أدوات بيد القيادة الفلسطينية، ولا شك أنها ستكون ذات تأثير إذا أُحسن تطبيقها.. لا نجزم بأنها الوحيدة، وإنما هي من باب التذكير، لعَّل الذكرى تنفع المؤمنين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.